كيف تتم مناصحة الموقوفين الشيعة؟

السبت - 12 مايو 2018

Sat - 12 May 2018

احتفلنا مؤخرا بتخريج الدفعة 20 من المستفيدين من برنامج الرعاية والتأهيل (بناء)، الذي تشرف عليه مباحث المنطقة الشرقية، ويستفيد منه الموقوفون من أبنائنا المواطنين الشيعة، أسوة بإخوانهم في الوطن السُنة المستفيدين من برنامج الأمير محمد بن نايف للمناصحة، والذي يعمل تحت مظلته.

كانت سعادتي غامرة وأنا أرى تجمع الأهالي من القطيف وقراها والأحساء مع كبار رجالات جهاز المباحث في نفس المكان يدا بيد، لتخريج أبنائهم المستفيدين من البرنامج، متناسين الماضي معا، كعائلة واحدة وكأهل بيت واحد، حيث لم يدخر الوطن أي جهد لإعادة تأهيل هؤلاء المستفيدين. ونحمد الله أن الاستثمار سيكون في مكانه، ففي فترة بسيطة رأينا الكثير من مستفيدي البرنامج تغيروا وبرزوا في مجالات عدة، كالتجارة والدراسة والأدب وكتابة الشعر والإنشاد.

كانت فرحتي غامرة ذات يوم عندما وصلتني رسالة واتس اب لأنشودة وطنية كتبها ولحنها وأداها أحد المستفيدين، ظللت أسمعها بفخر طوال اليوم، وغمرني ذات الشعور عندما قرأت قبل يومين مقالا بصحيفة محلية لأحد المستفيدين.

ويذكرني ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب «يا علي لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس، وخير لك من حمر النعم، وخير لك من الدنيا وما فيها»، فصناعة التغيير هي نهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونهج ديننا الحنيف، بل يعدها خير المكاسب على الإطلاق.

كان أول ما تعلمته خلال عملي بالبرنامج أن العمل فيه على الرغم من كونه مدفوع الأجر، إلا أنه إنساني بحت، يخدم الوطن والمواطنين. استدركت حينها أهمية العمل في البرنامج والتعاون مع هذا الجهاز لخدمة أبناء منطقتي. ويعد هذا الجهاز من أقوى الأجهزة الأمنية في العالم. وفخري وانتمائي لبلدي السعودية ولجميع أجهزته الأمنية جعلاني أكتب عن البرنامج والجهة المشرفة عليه وعن إنجازاته بدون خوف أو تردد، بل بفخر واعتزاز. كيف لا والقائمون على البرنامج والعاملون بجهاز أمن الدولة ساهرون مضحون بأرواحهم لأجل خدمة الوطن والمواطنين.

في لقاء جمعنا بمدير مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة اللواء الدكتور ناصر محيا المطيري قال لنا معلما وموجها «نحن هنا نتعامل مع المستفيدين بمنظور إنساني بحت، فالعقاب أخذوه وأنهوا محكوميتهم، وجاء دورنا الآن لنؤهلهم للعودة إلى أهاليهم ومجتمعهم، ولينخرطوا في مجتمعاتهم بشكل سلس، ونردهم إلى حضن الوطن ردا جميلا».

وعلى الرغم من أن أكثر الأخصائيين في البرنامج كانوا من أبناء الطائفة الشيعية، ليشعر المستفيد وأسرته بالألفة والقرب منهم عند عمل الجلسات معهم، إلا أننا عملنا جميعا كفريق واحد من كافة الطوائف في البرنامج، ولم نكن أحرص منهم على المستفيدين، بل كان هدفنا جميعا تأهيل المستفيدين وإكسابهم مهارات نفسية وفكرية واجتماعية، فقدانهم لها كان أحد أسباب وجودهم في البرنامج.

تجربة السجن تجربة سيئة لا نتمناها لأي مواطن على الإطلاق، لكن الطبيب ليعالج مرضا ما قد يبتر أو يستأصل عضوا لأجل سلامة باقي أعضاء الجسم، فهو لا يتخذ قرار البتر نكاية بمريضه، بل يتخذه لأن ذلك العلاج كان خياره الأخير والوحيد. وهذا ما يحدث عندما يسجن أحد. فالدولة لا تسجن أبناءها وتعاقبهم إلا حرصا منها على أمن المجتمع ككل. فليس للدولة ثأر ولا عداء مع أي مواطن. فكلنا أبناء الوطن سواسية، لا فرق بيننا في الحقوق والواجبات.

بعد انتهاء محكومية المستفيد والتحاقه بالبرنامج يعود مواطنا له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات. من هنا جاء دورنا في العلاج والتأهيل، فالمستفيد بعد خروجه يعاني الكثير من المشاكل، بعضها يكون بسبب تعوده على نظام معيشي روتيني لسنوات في مؤسسة يكون فيها النوم والأكل بنظام، ورفاق السجن هم بديل الأصدقاء والعائلة، وغيرها من المشكلات، وينتقل بعد إطلاق سراحه إلى مجتمع مختلف تماما. واجهنا مستفيدين وجدوا صعوبة في التأقلم حتى مع تجمعات أهاليهم، وفي سماع أصواتهم المرتفعة. وقد أخبرني أحدهم عن تغير أصدقائه عليه بعد ابتعاده عنهم لسنوات. وآخر أخبرني بمعاناته مع أصدقائه، فليس لديه حديث يتحدث به معهم سوى أحاديث السجن التي لا يجد فيها غيره أي متعة أو تسلية، مما جعله ينزوي على نفسه بعد إطلاق سراحه. وكثير منهم، إن لم يكن كلهم، يعاني من عقدة الذنب والندم على ما بدر منه في حق وطنه ونفسه وعائلته، ويصاب بحالة من الألم، لكونه جر الويلات على زوجته وأبنائه بابتعاده عنهم، وقد تعوقه هذه الحالة النفسية عن نسيان الماضي ومواصلة حياته بشكل طبيعي.

من هنا جاءت أهمية تقسيم البرنامج لمرحلتين، الأولى قبل الإفراج داخل المركز، والثانية لاحقة، تعنى بتأهيل وحل مشاكل ما بعد الإفراج داخل أحد فنادق المنطقة الشرقية، حيث يأتي دورنا لكي نؤهل المستفيد نفسيا ولإكسابه مهارات التعافي مما مضى، وإكسابه مهارات حياتية جديدة يستفيد منها في تنمية مهاراته وتطوير شخصيته ليكون عضوا فعالا في مجتمعه، يعرف كيف يتعامل مع نفسه ومجتمعه من جديد.

أحد المستفيدين (22 عاما) حدثني أن سبب دخوله السجن هو تواصله مع جهات خارجية بغرض الجهاد بالخارج، وعندما سألته: ما دخلك أنت كمواطن سعودي لتجاهد في الخارج أيا كان السبب؟ هل يحق لك أن تزهق روحك لغرض غير الجهاد والدفاع عن وطنك الذي تنتمي إليه؟ فضحك قائلا «فقط أخذني الحماس»!

استشعرت حينها دور البرنامج ودوري الإنساني في حماية أمثال هذا الشاب من أن يغرر بهم، فهؤلاء أبناؤنا، ثروتنا، سلاحنا وسلاح الدولة ضد العدو، ولا يجب أن نسمح لأي كان أن يصوبه علينا. ومن المفارقة أنني عندما جلست مع أهله وتحدثنا عن ابنهم ضحكوا ساخرين من التهمة ومتعجبين منها، فما زال البعض ينظر لجهاز المباحث على أنه جهاز يلفق التهم، أو أنه يأخذ الاعترافات من السجناء بالإكراه.

كم تمنيت لو أدركنا حجم الخطر الفعلي الذي سقط فيه بعض شبابنا لنبدأ بعلاجه، لكيلا يستمر ويمتد كالسيل أو السرطان الذي إن انتشر في عضو قضى على باقي الأعضاء.

الدولة ليس لديها عداء مع أحد، وليست بحاجة لبريء يقضي داخل السجن سنوات وسنوات، يكلف الدولة خلال إقامته وسجنه مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من الريالات. هذا عدا خسارة الدولة له كعضو فاعل منتج في المجتمع، لذا رسم القائمون على البرنامج خطة مستقبلية تتجاوز العلاج إلى الحماية، فنحن نهدف للوصول إلى كل بيت في مدننا وقرانا. نهدف للوصول إلى طلاب المدارس والمعاهد والجامعات، وأن يكون لنا حضور في الفعاليات والمهرجانات، وأن يكون لنا دور بارز في تعزيز قيم التعايش والمواطنة الصالحة بين أفراد المجتمع. نهدف إلى أن يكون حب الوطن سلوكا نحمي به النفس والولد والعائلة والقرية والوطن من الضياع، فحب الوطن ليس شعارات نتغنى بها ثم ننام وننساها.

ولا ننسى أن تعزيز قيم المواطنة وحب الوطن من أسمى القيم الإلهية والدينية، فمن مات دون شبر من وطنه فهو شهيد. وحب الوطن من الإيمان، بل هو كل الإيمان، فالمواطن الصالح يتمنى الخير لوطنه ويسوؤه ما يسوء وطنه، ويعادي عدوه ولو كان أقرب الأقربين، ويرى وطنه جنة غناء ولو كان صحراء قاحلة.