السفر.. بعد زماني أيضا!
نعرف أن “السفر” هو الارتحال من بلد إلى آخر، ولكن الذي يغيب عن بالنا هو أن السفر ارتحال من زمان إلى آخر ملازم للارتحال من
نعرف أن “السفر” هو الارتحال من بلد إلى آخر، ولكن الذي يغيب عن بالنا هو أن السفر ارتحال من زمان إلى آخر ملازم للارتحال من
الأربعاء - 25 مارس 2015
Wed - 25 Mar 2015
نعرف أن “السفر” هو الارتحال من بلد إلى آخر، ولكن الذي يغيب عن بالنا هو أن السفر ارتحال من زمان إلى آخر ملازم للارتحال من مكان إلى آخر ومقارن له. فقد يرتحل الإنسان من بلد فيظل ماكثا فيه لا يغادره حتى وهو خارجه، وهو في هذه الحالة يحقق واقعة الانتقال المكاني، ولكنه لا يحقق نقلة في الزمان، ولا يتقارن – لديه - الانتقال من بلد إلى بلد، بالانتقال من زمان إلى زمان. وهذا يعيدنا إلى التفكير في مدلول المكان الذي لا ينفصم عن الزمان، حتى غدا الزمان في الفيزياء الحديثة بعدا رابعا مكملا للأبعاد المكانية الثلاثة، ومؤلفا معها المتصل المكاني-الزماني، وهي: الطول والعرض والعمق والزمان. ولم يعد ممكنا تصور المكان من دون بعده الزماني، ولهذا البعد معناه النفسي والذهني والحسي الذي يجاوز بالمكان إلى مشاعر وتصورات وخبرات، ويتخطى به المكان الذي لا يختلف عن مرجعية الملاحظة والقياس لدى المدرك.
ولذلك يغدو حديث الناس المعتاد عن فوائد السفر وإيجابياته وصفا زمانيا له وليس مكانيا فحسب. فالتجدد الذي يطلبه المسافرون، قرين التغيير الذي يحدثه السفر في حياتهم. وطلب الراحة والاستجمام معنى بارز للذين يتخذون العطلات أو الأوقات المستقطعة غيرها وقتا لرحلاتهم، وقد ينوب عن ذلك التعبير بقضاء الإجازة أو تزجية بعض الوقت. والفرجة أو الفسحة أو المتعة أو السياحة أمثلة لأبرز ما يتأدى إليه السفر، وهي مؤدى لاكتساب الخبرة والفضول إلى الاطلاع واكتساب تجارب بطريقة حية وحاضرة لا تجزئ عنها قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم أو الاستماع إلى متحدث. وكل ذلك حديث عن المكون الزماني في السفر؛ لأنه ينطوي على حركة مادية ونفسية نتيجة القياس لجدة والتخطي لمألوف.
لكن السفر لا يحقق تلك الفوائد دائما؛ فقد يسافر المرء لطلب التغيير والتجديد الذهني والنفسي فلا يجدهما في وجهة السفر التي توجه إليها، ولا يجد المتعة والفرجة والراحة. وقد يكون سفره مقصورا على أداء مهمة عملية، كما قد يكون مرغما على السفر ومضطرا إلى الارتحال والهجرة. وفي هذه الأمثلة جميعا نرى السفر معنى منقوصا نسبيا بالقياس إلى المعنى المذكور أعلاه، والبعد الناقص في المعنى هو البعد الزماني. فالتغير في المكان عند الذي لم يجد في سفره تغييرا وتجديدا ومتعة وخبرة، لم يقترن بتغير في زمان المكان، وبعبارة أوضح فقد كانت وجهة السفر هذه هي وجهة مشابهة نفسيا وذهنيا وحسيا لمكان إقامته، فكأنه لم يغادر زمانه. ولا يختلف من يقتصر في سفره على أداء مهمة عملية، أو يكون مرغما على السفر عن ذلك، فالسفر لديهما مكاني فقط أو يكاد.
وليس صدفة، على ما يبدو، أن يقترن معنى السفر في المعاجم العربية، بالكشف والإضاءة؛ ففي لسان العرب: “أسفر القوم: أصبحوا” و”السفر الفجر” و”سمي المسافر مسافرا لكشفه قناع الكِنِّ عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه..” و”سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيظهر ما كان خافيا”. والكشف أو الانكشاف الذي تحمله الدلالة اللغوية للسفر، هو معنى زماني أي معنى تغير وحدوث مستمر، ولذلك فإن دلالة السفر على الارتحال لا تكتمل بغير الكشف والانكشاف وهي انكشاف للمسافر لقدر ما هي كشف يمارسه تجاه الوجهة التي يسافر إليها،
ولا كشف أو انكشاف من غير اختيار وحرية.
هكذا تكتمل دلالة السفر فيكون انتقالا مكانيا وزمانيا حين يكون اختيارا. أما يحين يكون اضطرارا فإن دلالة السفر تقل، حتى يتشابه مع انتقال المرء من بيته إلى عمله.