حداثة الثمانينات.. ودرس في سياسة الأفكار

يُمثل الصراع الفكري في الثمانينيات بين المحافظين والحداثيين علامة فارقة في تاريخنا الثقافي، وقد كتب عنها كتابات متفاوتة القيمة، وبقيت جوانب مسكوت عنها تنتظر من شهود تلك المرحلة الإفصاح عنها، ليس من باب التوثيق التاريخي فحسب، وإنما لاستنباط العبر التاريخية والفوائد التي تنمي معرفتنا بقوانين الصراع الفكري عموما

يُمثل الصراع الفكري في الثمانينيات بين المحافظين والحداثيين علامة فارقة في تاريخنا الثقافي، وقد كتب عنها كتابات متفاوتة القيمة، وبقيت جوانب مسكوت عنها تنتظر من شهود تلك المرحلة الإفصاح عنها، ليس من باب التوثيق التاريخي فحسب، وإنما لاستنباط العبر التاريخية والفوائد التي تنمي معرفتنا بقوانين الصراع الفكري عموما

الاحد - 22 مارس 2015

Sun - 22 Mar 2015

يُمثل الصراع الفكري في الثمانينيات بين المحافظين والحداثيين علامة فارقة في تاريخنا الثقافي، وقد كتب عنها كتابات متفاوتة القيمة، وبقيت جوانب مسكوت عنها تنتظر من شهود تلك المرحلة الإفصاح عنها، ليس من باب التوثيق التاريخي فحسب، وإنما لاستنباط العبر التاريخية والفوائد التي تنمي معرفتنا بقوانين الصراع الفكري عموما.
وقبل تسجيل بعض التعليقات الموجزة عن موقف حداثيي تلك المرحلة من عملية تحديث الثقافة لا بد من تأسيس يتناول أمرين: «طبيعة الفكرة الجديدة» و»سياسة الفكرة الجديدة»، فالفكرة الجديدة هي تلك الفكرة المخالفة للسائد لكنها منسجمة مع أصول السائد المغيَّبة، وهي الأصول التي تغيّبها الأعراف حينما تصاب بأمراض التقليد والجمود حتى تصل إلى مرحلة «الشكلية»، فتأتي الفكرة الجديدة لتقوم بوظيفة خلع الأسمال البالية كاشفةً عن جوهر المقاصد والقيم المتعالية على المتغيرات الزمنية الضيقة التي قدّستها عقول الناس في مرحلة من مراحل الغفلة عن التعلق بمقاصد الثقافة العليا وقيمها الكبرى.
والفكرة الجديدة بهذا التوصيف هي جديدة ورائعة في وعي المفكر المجدِّد الذي قد قام بتحليل ثقافته وميز بين جوهرها وعرَضها، وأصيلها ودخيلها، وحالات قوتها ومرضها، فاكتشف أنها منسجمة مع أصول الثقافة، لكنها في نظر المقلّد فكرة غريبة أو منكرة أو شاذة أو هدامة؛ لأنه لا يميز بين أصول ثقافته ومذهبه أو عادته، فيظن عرفه البيئي الخاص هو الممثل دائما لقيم ثقافة الأمة العامة، ومن هنا يقف موقف المعادي للفكرة الجديدة وصاحبها.
وهذه الإشكالية في التلقي تفرض على المفكر شروطا نفسية وعقلية واجتماعية يكوِّن مجموعُها ما أسميه «سياسة الفكرة»؛ تلك السياسة التي يتمكن بها من تصحيح فكرته وتطويرها بما ينسجم مع مقاصد ثقافته وقيمها الكبرى، وبما يتناسب مع ظروف بيئته الخاصة؛ فلا بد أن يتصف نفسيًا بالمصداقية لينعكس ذلك على الفكرة إيجابيا بتجليتها وإزالة اللبس والإشكالات عنها، فيكسب بذلك ثقة المتلقي، كما يتصف بالصبر والحكمة.
ولا بد أن يتصف عقليا بقوة الإقناع المنطقي بالدلائل البرهانية لا بفنون الإقناع الخطابي الجدلي.
كما لا بد من الشرط الاجتماعي المتمثل في القوة الاجتماعية التي تمكنه من نشر الفكرة الجديدة وكسب دعم قُوى أخرى مساندة.
ومن أهم الشروط الاجتماعية في سياسة الفكرة الجديدة التفوق في مهارات الاتصال الفكري كالتمييز بين مقاصد الفكرة وشكلياتها، وترتيب الأولويات، والتخلص من الارتباطات الشرطية السلبية التي تقوم في ذهن المتلقي المرتاب من الفكرة الجديدة أو من صاحبها؛ كالارتباط الشرطي بأفكار «منحرفة» ليست لازمة للفكرة المقصودة،أو بمفكرين «منحرفين» لا ينتظمهم وصاحبَ الفكرة منظومةٌ فكرية واحدة.
إن سياسة الفكرة هنا أهم من الفكرة؛ فهي التي تكسب الفكرة: الصحة (تماسكها المنطقي) والأصالة (ارتباطها بجذور الثقافة لتجاوز عوائق الأعراف الجامدة) والفاعلية (كفاءتها في دخول منظومة الأفكار القائمة بأقل كلفة اجتماعية ممكنة).
والآن: ماذا كان موقف نقاد الحداثة الذين قادوا الصراع الفكري مع المحافظين من هذين الأمرين؟ أما من ناحية فهمهم لطبيعة التجديد فقد ظنوا أنه يكفي أن تكون الفكرة «حديثة»، ولتكون حديثة يكفي أن تكون جذابة ومغرية، وقادرة على قلب الأوضاع التقليدية، وتوجيه مسار الفكر صوب قيم «يُزعم» أنها إنسانية مطلقة (حرية،عقلانية،علمية،وجودية.
.
إلخ) في حين أنها قيم صدّرتها ثقافات حديثة معينة وليست بالضرورة مطلقة ولا يجب على جميع الثقافات الخضوع المطلق والعام لها.
لقد كانت علاقتهم بالحديث الطارئ علاقة العاشق الأسير في حب معشوقه! في حين أن مشروع التجديد الثقافي هو مشروع عقلي اجتماعي جبار يحتاج لسادة كبار يخضع المجتمع «اختيارا» لعظمة عقولهم ونفوسهم وإنجازاتهم لا لعشاق هائمين منتهى مشروعهم هو الدهشة والإعجاب والذوبان! إن عمل هؤلاء يدخل في باب المراهقة وعبث الصبية لا في باب تجديد ثقافة الأمة! إنهم لم يقوموا بأول وأهم واجبات المفكر المجدد وهو نقد الأفكار الحديثة قبل الدعوة إليها، فالنقد في ذاته هو الوظيفة الحقيقية للمفكر الحقيقي، وهو التجديد الحقيقي وليس تطبيق أفكار مستعارة لم يتبيّنوا غثها من ثمينها، ولا مقاصدها من وسائلها! لقد قدموا لنا مثالا عمليا على حالة قد يصعب تصورها نظريا وهي: تلقي الجديد بعقلية التقليد، فكرروا أنماطهم الفكرية التقليدية ولكن بأدوات ومصطلحات حديثة، وهذا تجديد مزور وتحديث وهمي.
أما من ناحية سياسة الأفكار فالحق أنهم سجلوا على أنفسهم فشلا على أكثر من مستوى؛ فعلى مستوى الشرط النفسي لم يستطيعوا إقناع القوى الاجتماعية المؤثرة بمصداقيتهم الفكرية، فكان أكبر غاياتهم الشهرة والإثارة والاستفزاز لا خدمة الفكرة بإجادة تصميمها وشرحها وإزالة شبهاتها، باختصار: لم يكن مقصدهم الأول كسب ثقة المتلقي بل كسب المجد الشخصي! وعلى مستوى الشرط العقلي لم يعطوا الحوار الفكري ما يتطلبه من آليات حجاجية برهانية كافية للإقناع بل انشغلوا بتطوير مهارات الجدل الخطابي والمراوغة وفنون الكر والفر، فانقلب الاتصال الفكري مع المخالف من حوار إلى جدال، وانقلبت العلاقة من تنافس إلى عداء.
وعلى مستوى الشرط الاجتماعي لم يهتموا بمراعاة الفروق بين طبقات المتلقين، وبين مقامات التلقي، بل لم يعوا طبيعة مجتمعهم وثقافتهم حتى يحسنوا التعامل فكريا مع أعراف المجتمع الراسخة، مما جعل بعضهم يتكشف عن نوع من الغباء الاجتماعي يجعله أبعد ما يكون عن القيام بوظيفة كبرى وشريفة كوظيفة تجديد الثقافة! وزاد الطين بلة عدم عنايتهم بإزالة أوهام الارتباط الشرطي التي ألصقتْهم في خيال قطاع عريض من المجتمع بأفكار هدامة وشخصيات مرفوضة.
ومع أن بعضهم قد تنبه «بعد فوات الأوان» لهذا القصور الاجتماعي الشديد في سياسة التجديد وتنصل في حكايته للحداثة من الاعتراف بهذا القصور إلى رمي المجتمع بقصور التجاوب مع الحداثة! إلا أن بعض «رومانسيي» الحداثة ظل سادرا إلى اليوم في عشقه القديم، فها هو يعزف ربابة الذكرى الأليمة كما يتغنى العاشق بذكرياته القديمة، ولم يستطع هو وصحْبُه أن يتجاوزوا مرحلة المراهقة الفكرية إلى مرحلة النضوج وإن كان بعد فوات الأوان كما فعل بعض الخِلّان!