التوطين دليل اقتصاد المستقبل

السبت - 24 مارس 2018

Sat - 24 Mar 2018

رحم الله غازي القصيبي، قبل تسعة أعوام عندما كان وزيرا للعمل وجه الشباب السعودي لدحض التقاليد البالية التي تحتقر نوع العمل، وتثبط من الانخراط في السوق، وقدم هو أول نموذج عملي لتشجيعهم بنزوله لخدمة الزبائن في أحد المطاعم ليرفع من معنويات الشباب، فواجه مئات الشتائم والتنمر على وسائل التواصل الاجتماعي حينها. عندما شاهدت الفيديو الذي يصور مبادرته، ثم قرأت التعليقات القديمة في الأسفل، وجدت هجوما وقذفا واتهامات لا تحصى في حقه، اليوم لم يعد وجود الشاب السعودي في المطاعم أو محال البيع أمرا معيب، على العكس تماما لقد انطلق الشباب السعودي في هذا المجال، ومنهم من يملك اليوم مطعمه الخاص والمجتمع يفتخر بهم ويدعمهم. لقد أثر مقدار الدخل المادي للوظائف والحرف على النظرة الاجتماعية والثقافية للعاملين بها في كل الحضارات، فعند الإغريق كان ينظر إلى الحرف والزراعة باحتقار ذلك لاقتصارها على طبقة العبيد والفقراء الذين لم يكونوا يتقاضون الأجر الذي يمنحهم حياة أفضل، ورغم التقدم الأخلاقي والفلسفي والسياسي الذي حققوه، ومطالبة كثير من الفلاسفة وأهمهم «أرسطو» برفع أجور العمال لم تتغير النظرة الاجتماعية لأن الأجور ظلت شحيحة، واليوم ما زال عدد كبير منا يفتخر بالتجارة التقليدية الموروثة، فنحن نحترم التاجر ومن يحترف صنعة آبائه كعمل له، وقد كان للتغييرات الاقتصادية والثقافية الناشئة مع ظهور الثروة النفطية تأثير في خلق بيئة أعمال جديدة يجد فيها الفرد رديفا محترما للمهن التقليدية تحقق له دخلا جيدا، ويحظى بها على التقدير الاجتماعي. اليوم نمر بمخاض اقتصادي جديد يتطلب المزيد من الوظائف في السوق، والتي قد لا يتقبلها الفرد نتيجة لدخلها الضئيل وانعدام مميزاتها، واقتصارها فقط على العمالة الأجنبية، وبالتالي نظرة الإشفاق الاجتماعي للعاملين بها.

تشكل نسبة الباحثين عن عمل ممن يحملون مؤهلات تعليمية أقل من أكاديمية 50% من مجمل النسبة الكلية للعاطلين بحسب تقارير هيئة الإحصاء، وهو ما يجعلنا نفكر بجدية في تحسين أجور ومميزات أصحاب المهن الدنيا، وتدريب الأيدي الوطنية بشكل متخصص للبدء في مزاولتها وتوطين معظمها.

تسبب اللقاء مع عضو مجلس شورى حول توقعاته لنوعية الوظائف في السوق بغضب شمله وبقية أعضاء المجلس بطريقة غير موضوعية، وانقض البعض باسم الوطنية يشتمون، ويميزون بعنصرية، ويطالبون بفئة محددة من الوظائف للسعوديين بدون تفكير فيمن لا يملكون مؤهلات لأسباب قد تكون نفسية أو اجتماعية أو مادية، وليس لديهم فرص في الوظائف التي تحتاج مؤهلا علميا جامعيا أو ما يوازيه من مهارات تقنية ولغوية؛ الأمر الذي سيقلل فرصهم في سوق الوظائف، ويعود بالضرر عليهم. إن من العدل وسعة البصيرة المطالبة بتغيير منهجية التعامل مع المخلفات البشرية، وتحسين أجور العاملين بها وتأهيلهم للعمل والتعامل مع بيئة عملهم والبدء في مشاريع التخلص من المخلفات بطرق حديثة وإعادة تدويرها والاستفادة منها، وبالتالي حماية بيئتنا بدلا من المكابرة واستمرار النظرة الدونية للأيدي العاملة وتحقير المهن، وهو ما يتوافق مع الخطط التنموية للتحول الاقتصادي ويكسر حاجز التمييز المهني الاجتماعي. أخيرا، لا تنسوا مراجعة حلقة «مهندس الصحة» من برنامج خواطر 5، وأن تؤمنوا بأن بناء اقتصاد جديد لا يقوم على نظريات بالية وأعمال تقليدية.