النَّاقد الفنَّان
ناقد شنطة 5-7
ناقد شنطة 5-7
الأربعاء - 21 فبراير 2018
Wed - 21 Feb 2018
مع قرب نشر كتابه الجديد بعنوان «الحنطة والزؤان: نقد الأدب ونقد الشنطة»، يتصدى الباحث والناقد حسين بافقيه لمهمة مزدوجة: إعادة الاعتبار لأستاذ النقد السعودي، الدكتور منصور الحازمي، واستعادة المفهوم الذي بات، اليوم، مُلِّحًّا أكثر من أي وقت مضى: «ناقد شنطة». وبموجب اتفاق بين «مكة» والزميل بافقيه، تنشر الصحيفة على مدى سبع حلقات محتويات الفصل الأول من «الحنطة والزؤان»، وهو العنوان الذي يقول المؤلف إنه ينطلق من روح «المصطلح الحازمي»؛ فالحنطة هي ما هي، أما الزؤان فهو الحب الذي يخالطها فيكسبها رداءة.
لمْ يُخْفِ منصور الحازميّ - مهما سَخِرَ ومهما تَكَلَّفَ في نَقْد الصَّرامة - إعجابًا مَلَكَ عليه قلبه ووجدانه، حِين يظفر بـ»ناقدٍ» استُجْمِعَتْ فيه كلُّ صِفات العِلْم والمنهج والبصر بالأدب والنَّزاهة، لا يبتغي مِنْ وراء النَّقْد الَّذي يُنْشئه إلَّا صيانة تلك المعاني الَّتي لا يكون النَّاقد ناقدًا إنْ لمْ يَسْتَوْفِها، ولن يستخفي على قارئه ذلك الإعجاب ولا ذلك الإجلال كُلَّما سِيقتْ أسماء مصطفى عبداللَّطيف السَّحرتيّ، وعليّ جواد الطَّاهر، وشكري عيَّاد، وحسن ظاظا، ونذير العظمة، وما أكثر النُّقَّاد الَّذين لا تستهويهم «الشَّنْطة» ولا يأنسون بها!
كَتَبَ الدَّكتور منصور الحازميّ غير مرَّة عن الدَّكتور عليّ جواد الطَّاهر، ونَعْرِف مِمَّا أذاعه أنَّ صِلته بالعلَّامة العراقيّ ترتفع إلى سنة 1386هـ=1966م، وهي تلك السَّنة الَّتي آبَ فيها جمهرةٌ مِنَ الشُّبَّان السُّعُوديِّين إلى بلادهم، بعد أن نالوا مِنْ جامعات الغرب والشَّرْق، ولا سيَّما الجامعات البريطانيَّة، درجة الدَّكتوراه، وكان الدَّكتور الطَّاهر قدْ مضى على إعارته إلى جامعة الرِّياض ثلاث سنوات. وتَجْلُو لنا تلك المقالات صُورةَ رَجُلٍ انقطع للعِلْم، زاهدٍ في ما بين أيدي النَّاس، دائمِ الصَّمت، مُنْكَبٍّ على الدَّرْس والبحث، أَهَمَّهُ، حِين عَهِدَ إليه قِسْم اللُّغة العربيَّة وآدابها تدريس مقرَّر «الأدب العربيّ الحديث»، أن يُضَمِّن ذلك المقرَّر الجديد شيئًا مِنْ أدب البلاد، إذْ لا يسوغ، عقلًا، أن تُدْرَس آداب البلدان العربيَّة، كمصر والعراق والشَّام، إلَّا أدب بلدٍ قرَّرَتْ جامعته تدريس ذلك المقرَّر، فكان مِنْ مُكابدته وتَعَانِيه البحث والتَّفتيش سنواتٍ طِوالًا = كِتابه الباذخ معجم المطبوعات العربيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة؛ نُشِرَ، مُنَجَّمًا، في مجلَّة العرب الَّتي أنشأها الشَّيخ حمد الجاسر، قبل أن يقرأه النَّاس في كِتاب ذي مجلَّدات أربعة، وكان معجمه هذا آيةً في الإخلاص للعِلْم، وشِدَّة التَّوقِّي والتَّتبُّع، حَمَلَتْه على تصنيفه دواعي البحث والمعرفة، فَصِلتُه بالأدب والثَّقافة في المملكة تسبق عهد وِفادته عليها، بلْ إنَّها تَرْقَى إلى زمن الطَّلب، حتَّى أثبت الطَّاهر أنَّه يَعْرِف تاريخ هذه البلاد وثقافتها وأدبها «أكثر مِمَّا نتوقَّع»، سواءٌ ما انطوى عليه المعجم مِنْ موادَّ كُتِبتْ برُوح العالِم والفنَّان مَعًا، أوْ تلك المقدِّمات الَّتي انفسح فيها للطَّاهر مِنْ ألوان العِلْم والمعرفة، القَدْر الكبير، فمقدِّمة المعجم – في سَعتها وانبساطها ورُوحها – هي تُحفة نادرة تزخر بالمعلومات والنَّظرات الصَّائبة، وهي، فوق ذلك، لوحةٌ فنِّيَّة نرى فيها مَسيرتنا الأدبيَّة والفِكْرِيَّة والثَّقافيَّة حَيَّةً، متحرِّكةً، نابضةً. نراها بعَيْنَيْ أديبٍ ناقدٍ لا يَدَّعي فَصْل الخِطاب في ما يقوله، ولا يطمع في ثوابٍ أوْ نَوَال، بلْ إنَّه لا يزال يتعلَّم ويُعَلِّم ويتسامح ويَعْتَرِف بالخطأ إنْ نُبِّهَ إليه، وتلك مِنْ شِيَم العلماء.
وربَّما قيل: إنَّ إعجاب منصور الحازميّ بعليّ جواد الطَّاهر مَرَدُّهُ أنَّ العلَّامة العراقيّ انقطع، مُدَّةً طويلةً مِنَ الزَّمان، لتأليف معجمه الكبير ذلك، فكان سائغًا أن ينال مِنْ ألوان الإعجاب والتَّبجيل والإجلال ما نال، ولوْ أنَّ الرَّجُل انقطع إلى التَّدريس ولمْ يَعْنِهِ أدب البلاد، في قليلٍ أوْ كثيرٍ، ما قال فيه الحازميّ ما قال!
وعسى أن يكون هذا الكلام صحيحًا لوْ أنَّ منصور الحازميَّ لمْ يخطَّ كلمةً واحدةً في سِوَاه، ولكنَّنا نراه يُنْشِئ الفصل والمقال في نُقَّادٍ وأساتذةٍ عربٍ، دَرَّسُوا في جامعة الملك سُعُود، مِثْلَما دَرَّسَ عليّ جواد الطَّاهر، وقَضَوْا مُددًا طويلةً أَطْوَلَ مِمَّا قَضَاه فيها، على أنَّ بينهم وبينه فرْقًا كبيرًا، ذلك أنَّه جاء إلى الجامعة، وهي زاهدةٌ متقشِّفةٌ، وجاءوا إليها وهي ترفُل في ثوب زينتها، وأنفق هو فيها خمس سنوات، ومَرَّتْ على بعضهم فيها عُقُود.
والحقُّ أنَّ منصور الحازميّ لمْ يُنْشِئْ ما أنشأَه فيهم مقايضةً، يَكِيل لهم «المديح» متى ما اخْتصُّوا أدب بلاده بالفصل والمقال والكِتاب والكِتابين، لكنَّ الَّذي حَمَلَه على أن يُنْشِئ فيهم تلك الفُصُول ليس إلَّا ما انبسط لهم مِنْ ألوان العِلْم، وما أُتِيحَ لهم مِنَ البَصَر بالأدب والنَّقْد، وما تَجَلَّى فيهم مِنْ مِثَال الأستاذ الجامعيّ الجليل. كلّ ذلك عناه منصور الحازميّ حين كَتَب ما كَتَب.
ويَلُوح لي أنَّ الجامع لإعجاب منصور الحازميّ بعليّ جواد الطَّاهر، وشكري عيَّاد، وأحمد كمال زكيّ، وحسن ظاظا، ونذير العظمة، دُون سِوَاهم مِنَ الأساتذة العرب الَّذين عَرَفَتْهُم أروقة جامعة الملك سُعُود = أنَّهم جميعَهم تَصْدُق فيهم عِبارتُه: «إنَّ المؤلِّف العالِم الَّذي يسعى وراء الحقيقة، قدْ يكتب برُوح الفنَّان»!
قال منصور الحازميّ هذه العِبَارة في عليّ جواد الطَّاهر لَمَّا أنشأ معجمه الكبير ذلك، واضطُرَّتْه بَسْطته وانشعاب مُدَّة تأليفه، إلى أن ينسى فيُعيد بعض ما كان قدْ أنشأَه، مِنْ قَبْلُ، فغفر له الحازميّ النِّسيان والتَّكرار، وعدَّهما أدنى إلى أسلوب العالِم الَّذي «قدْ يكتب أحيانًا برُوح الفنَّان»!
وهذه الكلمة الأخيرة، لوْ تَدَبَّرْناها، هي مفتاح تلك الشَّخصيَّات الَّتي أطنب منصور الحازميّ في مديحها. لكنَّنا، لوْ أعدْنا النَّظر فيها مَرَّتين، لَعَدَدْناها أهمَّ صِفات منصور الحازميّ نفسه! لأنَّه، إذْ يكتب، فيَغْلب أن يأتي إنشاؤه بأسلوب العالِم الَّذي «قدْ يكتب أحيانًا برُوح الفنَّان»، مع تعديل يسيرٍ في العِبَارة، عميقٍ في الدِّلالة، مُفادُهُ أنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ يكتب «دائمًا» بأسلوب العالِم ورُوح الفنَّان، وأنَّه إنَّما يَنْفُر ويشتدُّ نُفُوره مِن اصطناع «العِلْمِيَّة» في غير موضعها، ويأبَى على ما يكتبه أن يأتي جافِيًا نابِيًا غامِضًا، خصيصة وَرِثَها عنْ أساتذته الرُّوَّاد أولئك الَّذين عَرَفَهم في القاهرة وجَلَسَ مِنْهم مجلس التِّلميذ، وكان مِنْهم طه حسين، وشوقيّ ضيف، وسَهِير القلماويّ، وشكري عيَّاد، هذا الَّذي كان مِنْ أساتذته في جامعة القاهرة، أوَّلًا، وزميلًا له في جامعة الرِّياض، آخِرًا.
فإذا ما أنشأ مقالًا في شكري عيَّاد فليس سِوى التَّواضُع، والسَّكينة، ولِين الجانب، تلك الَّتي تُخْفي وراءَها عِلْمًا واسعًا بالأدب والنَّقْد والفلسفة، في تراثنا وتراث غيرنا، وكأنَّما هذا الأستاذ الجليل لا يُدِلُّ بما حَبَاه الله – تبارك وتعالى – مِنْ ألوان المعرفة، مِثْل الَّذي نُلْفيه عند الَّذين يُدِلُّون بالعِلْم، ولا عِلْم، والمعرفة، ولا معرفة، ويَضِيقون بالتَّحاوُر والسِّجَال.
ولعلَّ أوَّل ما يَلْفِتُ النَّظرَ في أستاذنا هو تواضُعه الجَمُّ وحُسْن استماعه وسعة صدْره. وقدْ تُطْمِعك هذه الخِصال، ولكنَّك سَرْعان ما تكتشف خيبتك إنْ كنتَ مِنَ المتنفِّجين فتخجل وتلوذ بالصَّمت. إنَّ التَّواضُع مِنْ صِفات العلماء – كما نَعْلم – ولكنَّ بعضهم يُرْغِي ويُزْبِد ويضربك إنْ لزمَ الأمر بالعصا أوْ بالموسوعة الَّتي بين يديه. يقول لك: هلْ قرأْتَ كذا وكذا؟ وهلْ عَرَفْتَ كذا وكذا؟ أمَّا أستاذنا فلا يفعل شيئًا مِنْ هذا، بلْ يَدَعُكَ تتكلَّم وتتكلَّم حتَّى تتقطَّع مِنْك الأنفاس ويفرغ الرَّأس وتختلج الحواسّ، ثُمَّ يَصِل ما انقطع، ويفيض عليك مِنْ عِلْمه بما يُثْلِج صدرك أو يملؤه بالحسد.
إنَّ شكري عيَّاد مصْدر إشعاع وتوهُّج وتألُّق طوال السَّنوات الَّتي قضاها بيننا. نسأله عن البنيويَّة، قبل ظهور فُرسانها في بلادنا، فيجيب ويُشْبِع القول فيها في عِدَّة محاضرات وندوات، ونسأله عن الأسلوبيَّة ونُقَرِّر مادَّةً في القِسْم فيؤلِّف فيها كِتابين. ونسأله ونسأله، ونَعجب مِنْ ملاحقته للفِكْر الغربيّ، لا ملاحقة التِّلميذ التَّابع، بلْ ملاحقة الأستاذ الواعي المعتزّ بشخصيَّته وشخصيَّة أُمَّته.
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412هـ=1992م
لمْ يُخْفِ منصور الحازميّ - مهما سَخِرَ ومهما تَكَلَّفَ في نَقْد الصَّرامة - إعجابًا مَلَكَ عليه قلبه ووجدانه، حِين يظفر بـ»ناقدٍ» استُجْمِعَتْ فيه كلُّ صِفات العِلْم والمنهج والبصر بالأدب والنَّزاهة، لا يبتغي مِنْ وراء النَّقْد الَّذي يُنْشئه إلَّا صيانة تلك المعاني الَّتي لا يكون النَّاقد ناقدًا إنْ لمْ يَسْتَوْفِها، ولن يستخفي على قارئه ذلك الإعجاب ولا ذلك الإجلال كُلَّما سِيقتْ أسماء مصطفى عبداللَّطيف السَّحرتيّ، وعليّ جواد الطَّاهر، وشكري عيَّاد، وحسن ظاظا، ونذير العظمة، وما أكثر النُّقَّاد الَّذين لا تستهويهم «الشَّنْطة» ولا يأنسون بها!
كَتَبَ الدَّكتور منصور الحازميّ غير مرَّة عن الدَّكتور عليّ جواد الطَّاهر، ونَعْرِف مِمَّا أذاعه أنَّ صِلته بالعلَّامة العراقيّ ترتفع إلى سنة 1386هـ=1966م، وهي تلك السَّنة الَّتي آبَ فيها جمهرةٌ مِنَ الشُّبَّان السُّعُوديِّين إلى بلادهم، بعد أن نالوا مِنْ جامعات الغرب والشَّرْق، ولا سيَّما الجامعات البريطانيَّة، درجة الدَّكتوراه، وكان الدَّكتور الطَّاهر قدْ مضى على إعارته إلى جامعة الرِّياض ثلاث سنوات. وتَجْلُو لنا تلك المقالات صُورةَ رَجُلٍ انقطع للعِلْم، زاهدٍ في ما بين أيدي النَّاس، دائمِ الصَّمت، مُنْكَبٍّ على الدَّرْس والبحث، أَهَمَّهُ، حِين عَهِدَ إليه قِسْم اللُّغة العربيَّة وآدابها تدريس مقرَّر «الأدب العربيّ الحديث»، أن يُضَمِّن ذلك المقرَّر الجديد شيئًا مِنْ أدب البلاد، إذْ لا يسوغ، عقلًا، أن تُدْرَس آداب البلدان العربيَّة، كمصر والعراق والشَّام، إلَّا أدب بلدٍ قرَّرَتْ جامعته تدريس ذلك المقرَّر، فكان مِنْ مُكابدته وتَعَانِيه البحث والتَّفتيش سنواتٍ طِوالًا = كِتابه الباذخ معجم المطبوعات العربيَّة في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة؛ نُشِرَ، مُنَجَّمًا، في مجلَّة العرب الَّتي أنشأها الشَّيخ حمد الجاسر، قبل أن يقرأه النَّاس في كِتاب ذي مجلَّدات أربعة، وكان معجمه هذا آيةً في الإخلاص للعِلْم، وشِدَّة التَّوقِّي والتَّتبُّع، حَمَلَتْه على تصنيفه دواعي البحث والمعرفة، فَصِلتُه بالأدب والثَّقافة في المملكة تسبق عهد وِفادته عليها، بلْ إنَّها تَرْقَى إلى زمن الطَّلب، حتَّى أثبت الطَّاهر أنَّه يَعْرِف تاريخ هذه البلاد وثقافتها وأدبها «أكثر مِمَّا نتوقَّع»، سواءٌ ما انطوى عليه المعجم مِنْ موادَّ كُتِبتْ برُوح العالِم والفنَّان مَعًا، أوْ تلك المقدِّمات الَّتي انفسح فيها للطَّاهر مِنْ ألوان العِلْم والمعرفة، القَدْر الكبير، فمقدِّمة المعجم – في سَعتها وانبساطها ورُوحها – هي تُحفة نادرة تزخر بالمعلومات والنَّظرات الصَّائبة، وهي، فوق ذلك، لوحةٌ فنِّيَّة نرى فيها مَسيرتنا الأدبيَّة والفِكْرِيَّة والثَّقافيَّة حَيَّةً، متحرِّكةً، نابضةً. نراها بعَيْنَيْ أديبٍ ناقدٍ لا يَدَّعي فَصْل الخِطاب في ما يقوله، ولا يطمع في ثوابٍ أوْ نَوَال، بلْ إنَّه لا يزال يتعلَّم ويُعَلِّم ويتسامح ويَعْتَرِف بالخطأ إنْ نُبِّهَ إليه، وتلك مِنْ شِيَم العلماء.
وربَّما قيل: إنَّ إعجاب منصور الحازميّ بعليّ جواد الطَّاهر مَرَدُّهُ أنَّ العلَّامة العراقيّ انقطع، مُدَّةً طويلةً مِنَ الزَّمان، لتأليف معجمه الكبير ذلك، فكان سائغًا أن ينال مِنْ ألوان الإعجاب والتَّبجيل والإجلال ما نال، ولوْ أنَّ الرَّجُل انقطع إلى التَّدريس ولمْ يَعْنِهِ أدب البلاد، في قليلٍ أوْ كثيرٍ، ما قال فيه الحازميّ ما قال!
وعسى أن يكون هذا الكلام صحيحًا لوْ أنَّ منصور الحازميَّ لمْ يخطَّ كلمةً واحدةً في سِوَاه، ولكنَّنا نراه يُنْشِئ الفصل والمقال في نُقَّادٍ وأساتذةٍ عربٍ، دَرَّسُوا في جامعة الملك سُعُود، مِثْلَما دَرَّسَ عليّ جواد الطَّاهر، وقَضَوْا مُددًا طويلةً أَطْوَلَ مِمَّا قَضَاه فيها، على أنَّ بينهم وبينه فرْقًا كبيرًا، ذلك أنَّه جاء إلى الجامعة، وهي زاهدةٌ متقشِّفةٌ، وجاءوا إليها وهي ترفُل في ثوب زينتها، وأنفق هو فيها خمس سنوات، ومَرَّتْ على بعضهم فيها عُقُود.
والحقُّ أنَّ منصور الحازميّ لمْ يُنْشِئْ ما أنشأَه فيهم مقايضةً، يَكِيل لهم «المديح» متى ما اخْتصُّوا أدب بلاده بالفصل والمقال والكِتاب والكِتابين، لكنَّ الَّذي حَمَلَه على أن يُنْشِئ فيهم تلك الفُصُول ليس إلَّا ما انبسط لهم مِنْ ألوان العِلْم، وما أُتِيحَ لهم مِنَ البَصَر بالأدب والنَّقْد، وما تَجَلَّى فيهم مِنْ مِثَال الأستاذ الجامعيّ الجليل. كلّ ذلك عناه منصور الحازميّ حين كَتَب ما كَتَب.
ويَلُوح لي أنَّ الجامع لإعجاب منصور الحازميّ بعليّ جواد الطَّاهر، وشكري عيَّاد، وأحمد كمال زكيّ، وحسن ظاظا، ونذير العظمة، دُون سِوَاهم مِنَ الأساتذة العرب الَّذين عَرَفَتْهُم أروقة جامعة الملك سُعُود = أنَّهم جميعَهم تَصْدُق فيهم عِبارتُه: «إنَّ المؤلِّف العالِم الَّذي يسعى وراء الحقيقة، قدْ يكتب برُوح الفنَّان»!
قال منصور الحازميّ هذه العِبَارة في عليّ جواد الطَّاهر لَمَّا أنشأ معجمه الكبير ذلك، واضطُرَّتْه بَسْطته وانشعاب مُدَّة تأليفه، إلى أن ينسى فيُعيد بعض ما كان قدْ أنشأَه، مِنْ قَبْلُ، فغفر له الحازميّ النِّسيان والتَّكرار، وعدَّهما أدنى إلى أسلوب العالِم الَّذي «قدْ يكتب أحيانًا برُوح الفنَّان»!
وهذه الكلمة الأخيرة، لوْ تَدَبَّرْناها، هي مفتاح تلك الشَّخصيَّات الَّتي أطنب منصور الحازميّ في مديحها. لكنَّنا، لوْ أعدْنا النَّظر فيها مَرَّتين، لَعَدَدْناها أهمَّ صِفات منصور الحازميّ نفسه! لأنَّه، إذْ يكتب، فيَغْلب أن يأتي إنشاؤه بأسلوب العالِم الَّذي «قدْ يكتب أحيانًا برُوح الفنَّان»، مع تعديل يسيرٍ في العِبَارة، عميقٍ في الدِّلالة، مُفادُهُ أنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ يكتب «دائمًا» بأسلوب العالِم ورُوح الفنَّان، وأنَّه إنَّما يَنْفُر ويشتدُّ نُفُوره مِن اصطناع «العِلْمِيَّة» في غير موضعها، ويأبَى على ما يكتبه أن يأتي جافِيًا نابِيًا غامِضًا، خصيصة وَرِثَها عنْ أساتذته الرُّوَّاد أولئك الَّذين عَرَفَهم في القاهرة وجَلَسَ مِنْهم مجلس التِّلميذ، وكان مِنْهم طه حسين، وشوقيّ ضيف، وسَهِير القلماويّ، وشكري عيَّاد، هذا الَّذي كان مِنْ أساتذته في جامعة القاهرة، أوَّلًا، وزميلًا له في جامعة الرِّياض، آخِرًا.
فإذا ما أنشأ مقالًا في شكري عيَّاد فليس سِوى التَّواضُع، والسَّكينة، ولِين الجانب، تلك الَّتي تُخْفي وراءَها عِلْمًا واسعًا بالأدب والنَّقْد والفلسفة، في تراثنا وتراث غيرنا، وكأنَّما هذا الأستاذ الجليل لا يُدِلُّ بما حَبَاه الله – تبارك وتعالى – مِنْ ألوان المعرفة، مِثْل الَّذي نُلْفيه عند الَّذين يُدِلُّون بالعِلْم، ولا عِلْم، والمعرفة، ولا معرفة، ويَضِيقون بالتَّحاوُر والسِّجَال.
ولعلَّ أوَّل ما يَلْفِتُ النَّظرَ في أستاذنا هو تواضُعه الجَمُّ وحُسْن استماعه وسعة صدْره. وقدْ تُطْمِعك هذه الخِصال، ولكنَّك سَرْعان ما تكتشف خيبتك إنْ كنتَ مِنَ المتنفِّجين فتخجل وتلوذ بالصَّمت. إنَّ التَّواضُع مِنْ صِفات العلماء – كما نَعْلم – ولكنَّ بعضهم يُرْغِي ويُزْبِد ويضربك إنْ لزمَ الأمر بالعصا أوْ بالموسوعة الَّتي بين يديه. يقول لك: هلْ قرأْتَ كذا وكذا؟ وهلْ عَرَفْتَ كذا وكذا؟ أمَّا أستاذنا فلا يفعل شيئًا مِنْ هذا، بلْ يَدَعُكَ تتكلَّم وتتكلَّم حتَّى تتقطَّع مِنْك الأنفاس ويفرغ الرَّأس وتختلج الحواسّ، ثُمَّ يَصِل ما انقطع، ويفيض عليك مِنْ عِلْمه بما يُثْلِج صدرك أو يملؤه بالحسد.
إنَّ شكري عيَّاد مصْدر إشعاع وتوهُّج وتألُّق طوال السَّنوات الَّتي قضاها بيننا. نسأله عن البنيويَّة، قبل ظهور فُرسانها في بلادنا، فيجيب ويُشْبِع القول فيها في عِدَّة محاضرات وندوات، ونسأله عن الأسلوبيَّة ونُقَرِّر مادَّةً في القِسْم فيؤلِّف فيها كِتابين. ونسأله ونسأله، ونَعجب مِنْ ملاحقته للفِكْر الغربيّ، لا ملاحقة التِّلميذ التَّابع، بلْ ملاحقة الأستاذ الواعي المعتزّ بشخصيَّته وشخصيَّة أُمَّته.
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412هـ=1992م