ما أَهْوَنَ النَّقْد!
ناقد شنطة 4 -7
ناقد شنطة 4 -7
الثلاثاء - 20 فبراير 2018
Tue - 20 Feb 2018
مع قرب نشر كتابه الجديد بعنوان «الحنطة والزؤان: نقد الأدب ونقد الشنطة»، يتصدى الباحث والناقد حسين بافقيه لمهمة مزدوجة: إعادة الاعتبار لأستاذ النقد السعودي، الدكتور منصور الحازمي، واستعادة المفهوم الذي بات، اليوم، مُلِّحًّا أكثر من أي وقت مضى: «ناقد شنطة». وبموجب اتفاق بين «مكة» والزميل بافقيه، تنشر الصحيفة على مدى سبع حلقات محتويات الفصل الأول من «الحنطة والزؤان»، وهو العنوان الذي يقول المؤلف إنه ينطلق من روح «المصطلح الحازمي»؛ فالحنطة هي ما هي، أما الزؤان فهو الحب الذي يخالطها فيكسبها رداءة.
كَتَبَ منصور الحازميّ عنْ ضربين مِنَ النُّقَّاد عَرَفَهم مِنْ كَثَب؛ كَتَبَ عنْ نُقَّادٍ أَجِلَّاء مِمَّن اتَّصلتْ بهم أسبابه، معظمهم مِمَّن امتهن التَّعليم في الجامعة، وكَتَبَ عنْ نُقَّادٍ آخرين عَدَّ ما وضعوه مِنْ كُتُبٍ ثمرةً مِنْ ثِمَار الاستخفاف بالعِلْم والمنهج ونُزُولًا بقَدْر النَّقْد الأدبيّ، ورُبَّما عَدَدْنا أولئك المنقودين «نُقَّاد شنطة»، وإنْ لمْ يُسَمِّهمْ بهذا الاسْم!
نقرأ في كتاب البحث عن الواقع مقالًا عنوانه «مع «الومضات» في ديوان العوَّاد». نَشَرَ منصور الحازميّ مقاله هذا قبل أن يَسُكَّ عِبَارته الذَّهبيَّة «ناقد شنطة» بعِدَّة سنوات، لكنَّ مَنْ قرأ المقالتين سيدْعو عليّ المصريّ، مؤلِّف الكِتاب، «ناقد شنطة»، فالكِتاب الَّذي صدر سنة 1399هـ=1979م، اجتمعتْ في مؤلِّفه سِمَات «ناقد الشَّنطة»، فهو مختصٌّ بالأدب العربيّ القديم والحديث، كَتَبَ «عن المتنبِّي وأبي نواس والبحتريّ والجاحظ، كما كَتَبَ عنْ مسرح عدنان مردم بك وشِعْر نزار قبَّانيّ. وهو كذلك عضو في جمعيَّة البحوث والدِّراسات في اتِّحاد الكُتَّاب العرب بدمشق»، وهو، كذلك، «ناقدٌ ودارسٌ لأكثر مِنْ أثر... وقاصٌّ وشاعر». فإذا ما اختصَّ الشَّاعرَ محمَّد حسن عوَّاد بكِتابٍ برأسه، فله في نَقْد الأدب يَدٌ سَلَفَتْ ومَجْدٌ قديم.
وتَلُوحُ مِنْ مفردات عليّ المصريّ صِفات «ناقد الشَّنطة»، ويَظْهَر ذلك جَلِيًّا مِنْ مقدِّمته الَّتي نَثَرَ فيها كلماتٍ عنْ منهجٍ في «التَّذوُّق» مستمدَّةٍ أُصُولُه مِنَ الفيلسوف الإيطاليّ كروتشه، ولا شكَّ أنَّ لهذه الكلمات، حِين قيلتْ في زمن الطَّفرة (1399هـ=1979م)، أثرًا أيَّ أثر، فـ»النَّاقد» لا يقدِّم بين يَدَيْ قارئه «بضاعة» مُزجاة، ولكنَّه يَرُوعه ويَخْلُب بصره بـ»علامة» ثقافيَّة جديدة، ممهورةٍ بِرَوْسم إيطاليّ، بلْ إنَّ الرَّجُل يقول ذلك صراحة – ولا أزال أنقل مِنْ منصور الحازميّ -: «ومِنْ أَجْل ذلك أقلعْتُ في دراستي لديوان العوَّاد، عن الطَّريقة الكلاسيكيَّة، واتَّبعْتُ طريقة الومضات الشِّعْريَّة، الَّتي تصدم أعصابي خلال انتقال السَّيَّالة الدَّافئة مِنَ الأصباغ والنَّغَم والغريزة والانفعال ساعةَ قراءة القصيدة، فتنقلني إلى واحات مضيئة مزروعة على أجفان السَّحاب».
لمْ يستطعْ منصور الحازميّ أن يخرج عنْ سجيَّته الَّتي جُبِلَ عليها، فغلبه الطَّبع والصَّنعة، فأنشأ يكتب ساخرًا «ورغم أنَّ مدرسة كروتشه التَّعبيريَّة مدرسة قديمة، فإنَّ دراسة العوَّاد على الطَّريقة «الإيطاليَّة» أمرٌ مرغوبٌ فيه، على أيِّ حال، فقدْ تُطْلِعنا على مناهجَ جديدةٍ لمْ نألفْها، وقدْ تُغْنِي نظرتنا إلى إنتاج أدبائنا السُّعُوديِّين، الَّذين لا نزال نَدْرسهم على الطَّريقة «البَلَدِيَّة» العتيقة. ولكنَّنا، للأسف، لا نكاد نمضي قليلًا في تصفُّح الكِتاب حتَّى نُفاجَأ بأنَّ ما ذكره المؤلِّف في صدْر مقدِّمته لا يَعْدُو الإعلان البَرَّاق الَّذي يُلْصَق على البضائع المحلِّيَّة لترويجها. فمنهجه مدْرسيّ تعليميّ غاية في البساطة والوضوح، إذْ يقوم على تقسيم الشِّعْر إلى موضوعات، وتوزيع الموضوعات على قصائد، وشرْح كلّ قصيدة بيتًا بيتًا أوْ مجموعةً مجموعةً مِنَ الأبيات. ويعتمد الشَّرْح على الأسلوب الإنشائيّ، الَّذي يخلو في معظمه مِنَ التَّحليل والتَّعليل أو المقارنة. وهذه أمور يَعْرِفها طلَّاب المدارس ولا تحتاج إلى «انتقال السَّيَّالة الدَّافئة». لا تحتاج إلى فلسفة».
ويمضي بنا كِتاب عليّ المصريّ على هذا النَّحْو مِنَ الكلام، ولنْ يستطيع القارئ أن يَخْرُج مِنْه إلَّا بتلك العِبَارات الَّتي أسرفتْ في الغُلُوّ كلَّ السَّرَف، وجاوزتِ الحدّ المعقول في الشَّاعر محمَّد حسن عوَّاد. يَسُوق لنا منصور الحازميّ طَرَفًا مِنْ تلك المبالغات:
عَلَمٌ مِنْ أعلام الفكر والأدب لا في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة فحَسْبُ، بلْ في الوطن العربيّ الكبير والمَهاجر؛ في الأمريكتين الشَّماليَّة والجنوبيَّة، وفي كثيرٍ مِنْ بقاع العالَم الحُرّ، إذ هَمَسَتْ شفتاه بالشِّعْر في سِنّ التَّاسعة مِنْ عُمره، وانتشر هذا الشِّعْر في سِنّ الحادية عشرة فأذهل النَّاس وأرعبهم فخافوا على قديمهم وموروثهم مِنْه.
العوَّاد موسوعةٌ عِلْمِيَّةٌ وأدبيَّةٌ وفلسفيَّةٌ... وفلسفة العوَّاد مبثوثة في نَثْره وشِعْره متداولة على ألسنة كثيرٍ مِنَ أدباء عصره ومَنْ تَبِعَهم دون أن يَعْرِفوا أنَّها فلسفة العوَّاد وبَوْح فكره.
وهذا هو الشَّاعر العوَّاد يُحْرِز قَصَب السَّبْق، وبين عينيه يتلامح شبح رسالةٍ ستهبط عليه حينما يبلغ الأربعين، إذنْ فَلْيُوَطِّن النَّفس لاستقبالها وَلْيَتَرَصَّنْ في حُسْن اختياره للصَّديق الصَّدُوق الَّذي يَرْكَن إليه ويبوح له برسالته.
والحقُّ أنَّني لمْ أستطعْ صَبْرًا على تلك الأقوال الَّتي ساقها عليّ المصريّ في كِتابه، ولَمَّا بلغ بالغُلُوّ منتهاه خرج منصور الحازميّ عنْ رُوحه السَّاخر، وأنشأ يكتب كلامًا كُلُّه جِدٌّ لا يَعْرِف الهَزْل، فوصف هذا الضَّرْب مِنَ «النَّقْد» بـ»الهَذْر»، لكنَّه يمضي في تبيان ألوان ذلك «الهَذْر»، ويصبر عليه، حتَّى إذا أشرف المقال على ختامه أنشأ يكتب:
وأخيرًا، فإنَّني لا أشكُّ أنَّ الأستاذ المصريّ غَيُورٌ على أدبنا، في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، يريد له الذُّيوع والانتشار – فقدْ كَتَبَ عنْ شِعْر العوَّاد، وكَتَبَ عنْ ديوان محمَّد أحمد العقيليّ «الأنغام المضيئة»، كما أعلن عنْ كِتاب له تحت الطَّبع بعنوان: «الأدب في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة» – يحوي دراسة لـ 142 أديبًا وشاعرًا، إلخ. ولكنِّي أقول – صادقًا -: إنَّ مِنَ الخير لأدبنا أن يبقى مغمورًا مجهولًا عنْ أن يُدْرَس دراسة مبتسرة متسرِّعة. وأقول أيضًا: إنَّ المديح المُفْرِط لا يفيدنا في شيء، وقدْ يخدعنا عنْ أنفسنا، ونحن أحوج ما يكون إلى الكلمة الصَّادقة المنزَّهة عن الأغراض؛ ناهيك عنْ أنَّ المغالاة في المديح هي أَمَرُّ وأبلغ أنواع السُّخْر والهجاء. وهذا ما لمْ يُرِدْه المصريّ إنْ شاء الله، ولا نريده.
وبعد أنْ نشر الدَّكتور منصور الحازميّ مقالته «ناقد شنطة»، بمُدَّة وجيزة، أذاعتْ له صحيفة الرِّياض مقالةً عنوانها «ملاحظات على كِتاب «أدباء مِنَ السُّعُوديَّة»، لزميله في قِسْم اللُّغة العربيَّة، بجامعة الملك سُعُود الدَّكتور يوسف نوفل.
لمْ يَسْخَرِ الحازميّ مِنْ كِتاب زميله، لكنَّه لمْ يُصَانِعْه، كما تقتضي الزَّمالة، وجعل يَسُوق الدَّليل تِلْوَ الدَّليل على أنَّ الدَّكتور يوسف نوفل لمْ يَتَعَهَّدْ كِتابه الصَّغير هذا بالتَّجويد والتَّحكيك والإتقان، فكِتاب أدباء مِنَ السُّعُوديَّة لا يرجو صاحبه مِنْ ورائه كَسْبًا عِلْمِيًّا؛ فهو لا يَجْلُو لقارئه أمرًا كان يجهله، ولا يُمِيط اللِّثام عنْ غامض في أدب هذه البلاد، وأقصى ما يرجوه أن يُعَرِّف بنفرٍ مِنْ أدباء المملكة، لقارئٍ خارجها، أمَّا أبناء هذه البلاد، أمَّا مَن يعيش على أرضها، فلن يُكْسِبه الكِتاب جديدًا.
لمْ يُسَمِّ منصور الحازميّ زميله في القِسْم بـ»ناقد شنطة»، لكنَّ سِمَات ذلك «النَّاقد» ألصق بالدَّكتور يوسف نوفل وكِتابه هذا؛ ذلك أنَّ أدباء مِنَ السُّعُوديَّة – عند منصور الحازميّ – لن يكسب مِنْه القارئ جديدًا، وأنَّ المؤلِّف استجمع كلَّ قدراته فأثقل مقالاته اليسيرة تلك بحَشْد مِنَ المراجع – وهذه صِفة مِنْ صِفات «نُقَّاد الشَّنطة» – يُريد بها التَّخييل على القارئ، وإيهامه بأنَّ ما يَظْهر عليه في الكِتاب لا يستقيم إلَّا لذوي العِلْم والاختصاص - وقليلٌ ما هُمْ - وتراه في توطئة الكِتاب يُقَدِّم بين يَدَي القارئ كلامًا مِمَّا كان يدور، آنئذٍ، لدى نُقَّاد مجلَّة فُصُول، مِمَّا يَحْسَبه مِنَ الكَلِم الجديد، وكلُّ هَمِّه أن يُثْبِت في سبع الصَّفحات تلك «أنَّ اللُّغة وسيلة الأدب، وأنَّ الصِّدْق الفنِّيّ ينبع مِنَ العاطفة القويَّة، وأنَّ هناك فُرُوقًا ثابتةً بين الموقف الغنائيّ والموقف الملحميّ والموقف الدِّراميّ، وما إلى ذلك مِنْ أُمور نستطيع أنْ نقرأها جميعها في كِتابٍ واحد؛ ولكنَّ المؤلِّف قدْ حشد لها في هامشه أحد عشر مرجعًا!! فلماذا؟».
إذنْ، لمْ تشفعِ المصطلحات الحديثة – وربَّما الحداثيَّة! – الَّتي زَيَّنَ الدَّكتور يوسف نوفل بها كِتابه = لمْ تشفعْ له عند زميله في الجامعة والقِسْم، ولمْ تَجُزْ على منصور الحازميّ تلك العِبَارات، وقُصَارَى تلك المقالات الَّتي جَمَعها صاحبها في كِتابٍ، أنْ تُنْبِئَ عنْ مؤلِّف أَعْجَلَهُ النَّشْر وحُسْن الظَّنّ بالنَّفس، والاطمئنان إلى رِضا النُّقَّاد = عنْ أن يُعَاوِد النَّظر في ما يُنْشئه قبل أن يدفع به إلى الصَّحيفة، ثُمَّ مِنْ بعدها إلى المطبعة فيصير مِنْها كِتاب، وحَسِبَ أنَّ كلماتٍ يسيراتٍ يَسُوقُهُنَّ في هذا القاصّ أوْ ذلك الشَّاعر هي كلُّ ما ينتظره القارئ المتذوِّق ويتشوَّف إليه، أوْ أنَّ نَقْد الأدب يَصْلُح فيه أن تضُمَّ الكلمة إلى أُختها، ثُمَّ لا شيء بعد ذلك، وكأنَّما قارئ كِتابه الَّذي أنفق فيه وقتًا يطول أوْ يَقْصُر، كان ما يرجوه مِنْ يوسف نوفل أن يُنْبئه بأنَّ شِعْر محمَّد بن عليّ السّنوسيّ يتميَّز «بالبساطة والتِّلقائيَّة»، وأنَّ محمَّد سليمان الشِّبْل جمع في شِعْره بين التُّراث والمعاصرة، وأنَّ عبد الله الفيصل شاعر وجدانيّ تأثَّرَ بجماعة أبولُّو وشعراء رابطة الأدب الحديث وشعراء المهجر.
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412هـ=1992م
كَتَبَ منصور الحازميّ عنْ ضربين مِنَ النُّقَّاد عَرَفَهم مِنْ كَثَب؛ كَتَبَ عنْ نُقَّادٍ أَجِلَّاء مِمَّن اتَّصلتْ بهم أسبابه، معظمهم مِمَّن امتهن التَّعليم في الجامعة، وكَتَبَ عنْ نُقَّادٍ آخرين عَدَّ ما وضعوه مِنْ كُتُبٍ ثمرةً مِنْ ثِمَار الاستخفاف بالعِلْم والمنهج ونُزُولًا بقَدْر النَّقْد الأدبيّ، ورُبَّما عَدَدْنا أولئك المنقودين «نُقَّاد شنطة»، وإنْ لمْ يُسَمِّهمْ بهذا الاسْم!
نقرأ في كتاب البحث عن الواقع مقالًا عنوانه «مع «الومضات» في ديوان العوَّاد». نَشَرَ منصور الحازميّ مقاله هذا قبل أن يَسُكَّ عِبَارته الذَّهبيَّة «ناقد شنطة» بعِدَّة سنوات، لكنَّ مَنْ قرأ المقالتين سيدْعو عليّ المصريّ، مؤلِّف الكِتاب، «ناقد شنطة»، فالكِتاب الَّذي صدر سنة 1399هـ=1979م، اجتمعتْ في مؤلِّفه سِمَات «ناقد الشَّنطة»، فهو مختصٌّ بالأدب العربيّ القديم والحديث، كَتَبَ «عن المتنبِّي وأبي نواس والبحتريّ والجاحظ، كما كَتَبَ عنْ مسرح عدنان مردم بك وشِعْر نزار قبَّانيّ. وهو كذلك عضو في جمعيَّة البحوث والدِّراسات في اتِّحاد الكُتَّاب العرب بدمشق»، وهو، كذلك، «ناقدٌ ودارسٌ لأكثر مِنْ أثر... وقاصٌّ وشاعر». فإذا ما اختصَّ الشَّاعرَ محمَّد حسن عوَّاد بكِتابٍ برأسه، فله في نَقْد الأدب يَدٌ سَلَفَتْ ومَجْدٌ قديم.
وتَلُوحُ مِنْ مفردات عليّ المصريّ صِفات «ناقد الشَّنطة»، ويَظْهَر ذلك جَلِيًّا مِنْ مقدِّمته الَّتي نَثَرَ فيها كلماتٍ عنْ منهجٍ في «التَّذوُّق» مستمدَّةٍ أُصُولُه مِنَ الفيلسوف الإيطاليّ كروتشه، ولا شكَّ أنَّ لهذه الكلمات، حِين قيلتْ في زمن الطَّفرة (1399هـ=1979م)، أثرًا أيَّ أثر، فـ»النَّاقد» لا يقدِّم بين يَدَيْ قارئه «بضاعة» مُزجاة، ولكنَّه يَرُوعه ويَخْلُب بصره بـ»علامة» ثقافيَّة جديدة، ممهورةٍ بِرَوْسم إيطاليّ، بلْ إنَّ الرَّجُل يقول ذلك صراحة – ولا أزال أنقل مِنْ منصور الحازميّ -: «ومِنْ أَجْل ذلك أقلعْتُ في دراستي لديوان العوَّاد، عن الطَّريقة الكلاسيكيَّة، واتَّبعْتُ طريقة الومضات الشِّعْريَّة، الَّتي تصدم أعصابي خلال انتقال السَّيَّالة الدَّافئة مِنَ الأصباغ والنَّغَم والغريزة والانفعال ساعةَ قراءة القصيدة، فتنقلني إلى واحات مضيئة مزروعة على أجفان السَّحاب».
لمْ يستطعْ منصور الحازميّ أن يخرج عنْ سجيَّته الَّتي جُبِلَ عليها، فغلبه الطَّبع والصَّنعة، فأنشأ يكتب ساخرًا «ورغم أنَّ مدرسة كروتشه التَّعبيريَّة مدرسة قديمة، فإنَّ دراسة العوَّاد على الطَّريقة «الإيطاليَّة» أمرٌ مرغوبٌ فيه، على أيِّ حال، فقدْ تُطْلِعنا على مناهجَ جديدةٍ لمْ نألفْها، وقدْ تُغْنِي نظرتنا إلى إنتاج أدبائنا السُّعُوديِّين، الَّذين لا نزال نَدْرسهم على الطَّريقة «البَلَدِيَّة» العتيقة. ولكنَّنا، للأسف، لا نكاد نمضي قليلًا في تصفُّح الكِتاب حتَّى نُفاجَأ بأنَّ ما ذكره المؤلِّف في صدْر مقدِّمته لا يَعْدُو الإعلان البَرَّاق الَّذي يُلْصَق على البضائع المحلِّيَّة لترويجها. فمنهجه مدْرسيّ تعليميّ غاية في البساطة والوضوح، إذْ يقوم على تقسيم الشِّعْر إلى موضوعات، وتوزيع الموضوعات على قصائد، وشرْح كلّ قصيدة بيتًا بيتًا أوْ مجموعةً مجموعةً مِنَ الأبيات. ويعتمد الشَّرْح على الأسلوب الإنشائيّ، الَّذي يخلو في معظمه مِنَ التَّحليل والتَّعليل أو المقارنة. وهذه أمور يَعْرِفها طلَّاب المدارس ولا تحتاج إلى «انتقال السَّيَّالة الدَّافئة». لا تحتاج إلى فلسفة».
ويمضي بنا كِتاب عليّ المصريّ على هذا النَّحْو مِنَ الكلام، ولنْ يستطيع القارئ أن يَخْرُج مِنْه إلَّا بتلك العِبَارات الَّتي أسرفتْ في الغُلُوّ كلَّ السَّرَف، وجاوزتِ الحدّ المعقول في الشَّاعر محمَّد حسن عوَّاد. يَسُوق لنا منصور الحازميّ طَرَفًا مِنْ تلك المبالغات:
عَلَمٌ مِنْ أعلام الفكر والأدب لا في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة فحَسْبُ، بلْ في الوطن العربيّ الكبير والمَهاجر؛ في الأمريكتين الشَّماليَّة والجنوبيَّة، وفي كثيرٍ مِنْ بقاع العالَم الحُرّ، إذ هَمَسَتْ شفتاه بالشِّعْر في سِنّ التَّاسعة مِنْ عُمره، وانتشر هذا الشِّعْر في سِنّ الحادية عشرة فأذهل النَّاس وأرعبهم فخافوا على قديمهم وموروثهم مِنْه.
العوَّاد موسوعةٌ عِلْمِيَّةٌ وأدبيَّةٌ وفلسفيَّةٌ... وفلسفة العوَّاد مبثوثة في نَثْره وشِعْره متداولة على ألسنة كثيرٍ مِنَ أدباء عصره ومَنْ تَبِعَهم دون أن يَعْرِفوا أنَّها فلسفة العوَّاد وبَوْح فكره.
وهذا هو الشَّاعر العوَّاد يُحْرِز قَصَب السَّبْق، وبين عينيه يتلامح شبح رسالةٍ ستهبط عليه حينما يبلغ الأربعين، إذنْ فَلْيُوَطِّن النَّفس لاستقبالها وَلْيَتَرَصَّنْ في حُسْن اختياره للصَّديق الصَّدُوق الَّذي يَرْكَن إليه ويبوح له برسالته.
والحقُّ أنَّني لمْ أستطعْ صَبْرًا على تلك الأقوال الَّتي ساقها عليّ المصريّ في كِتابه، ولَمَّا بلغ بالغُلُوّ منتهاه خرج منصور الحازميّ عنْ رُوحه السَّاخر، وأنشأ يكتب كلامًا كُلُّه جِدٌّ لا يَعْرِف الهَزْل، فوصف هذا الضَّرْب مِنَ «النَّقْد» بـ»الهَذْر»، لكنَّه يمضي في تبيان ألوان ذلك «الهَذْر»، ويصبر عليه، حتَّى إذا أشرف المقال على ختامه أنشأ يكتب:
وأخيرًا، فإنَّني لا أشكُّ أنَّ الأستاذ المصريّ غَيُورٌ على أدبنا، في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، يريد له الذُّيوع والانتشار – فقدْ كَتَبَ عنْ شِعْر العوَّاد، وكَتَبَ عنْ ديوان محمَّد أحمد العقيليّ «الأنغام المضيئة»، كما أعلن عنْ كِتاب له تحت الطَّبع بعنوان: «الأدب في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة» – يحوي دراسة لـ 142 أديبًا وشاعرًا، إلخ. ولكنِّي أقول – صادقًا -: إنَّ مِنَ الخير لأدبنا أن يبقى مغمورًا مجهولًا عنْ أن يُدْرَس دراسة مبتسرة متسرِّعة. وأقول أيضًا: إنَّ المديح المُفْرِط لا يفيدنا في شيء، وقدْ يخدعنا عنْ أنفسنا، ونحن أحوج ما يكون إلى الكلمة الصَّادقة المنزَّهة عن الأغراض؛ ناهيك عنْ أنَّ المغالاة في المديح هي أَمَرُّ وأبلغ أنواع السُّخْر والهجاء. وهذا ما لمْ يُرِدْه المصريّ إنْ شاء الله، ولا نريده.
وبعد أنْ نشر الدَّكتور منصور الحازميّ مقالته «ناقد شنطة»، بمُدَّة وجيزة، أذاعتْ له صحيفة الرِّياض مقالةً عنوانها «ملاحظات على كِتاب «أدباء مِنَ السُّعُوديَّة»، لزميله في قِسْم اللُّغة العربيَّة، بجامعة الملك سُعُود الدَّكتور يوسف نوفل.
لمْ يَسْخَرِ الحازميّ مِنْ كِتاب زميله، لكنَّه لمْ يُصَانِعْه، كما تقتضي الزَّمالة، وجعل يَسُوق الدَّليل تِلْوَ الدَّليل على أنَّ الدَّكتور يوسف نوفل لمْ يَتَعَهَّدْ كِتابه الصَّغير هذا بالتَّجويد والتَّحكيك والإتقان، فكِتاب أدباء مِنَ السُّعُوديَّة لا يرجو صاحبه مِنْ ورائه كَسْبًا عِلْمِيًّا؛ فهو لا يَجْلُو لقارئه أمرًا كان يجهله، ولا يُمِيط اللِّثام عنْ غامض في أدب هذه البلاد، وأقصى ما يرجوه أن يُعَرِّف بنفرٍ مِنْ أدباء المملكة، لقارئٍ خارجها، أمَّا أبناء هذه البلاد، أمَّا مَن يعيش على أرضها، فلن يُكْسِبه الكِتاب جديدًا.
لمْ يُسَمِّ منصور الحازميّ زميله في القِسْم بـ»ناقد شنطة»، لكنَّ سِمَات ذلك «النَّاقد» ألصق بالدَّكتور يوسف نوفل وكِتابه هذا؛ ذلك أنَّ أدباء مِنَ السُّعُوديَّة – عند منصور الحازميّ – لن يكسب مِنْه القارئ جديدًا، وأنَّ المؤلِّف استجمع كلَّ قدراته فأثقل مقالاته اليسيرة تلك بحَشْد مِنَ المراجع – وهذه صِفة مِنْ صِفات «نُقَّاد الشَّنطة» – يُريد بها التَّخييل على القارئ، وإيهامه بأنَّ ما يَظْهر عليه في الكِتاب لا يستقيم إلَّا لذوي العِلْم والاختصاص - وقليلٌ ما هُمْ - وتراه في توطئة الكِتاب يُقَدِّم بين يَدَي القارئ كلامًا مِمَّا كان يدور، آنئذٍ، لدى نُقَّاد مجلَّة فُصُول، مِمَّا يَحْسَبه مِنَ الكَلِم الجديد، وكلُّ هَمِّه أن يُثْبِت في سبع الصَّفحات تلك «أنَّ اللُّغة وسيلة الأدب، وأنَّ الصِّدْق الفنِّيّ ينبع مِنَ العاطفة القويَّة، وأنَّ هناك فُرُوقًا ثابتةً بين الموقف الغنائيّ والموقف الملحميّ والموقف الدِّراميّ، وما إلى ذلك مِنْ أُمور نستطيع أنْ نقرأها جميعها في كِتابٍ واحد؛ ولكنَّ المؤلِّف قدْ حشد لها في هامشه أحد عشر مرجعًا!! فلماذا؟».
إذنْ، لمْ تشفعِ المصطلحات الحديثة – وربَّما الحداثيَّة! – الَّتي زَيَّنَ الدَّكتور يوسف نوفل بها كِتابه = لمْ تشفعْ له عند زميله في الجامعة والقِسْم، ولمْ تَجُزْ على منصور الحازميّ تلك العِبَارات، وقُصَارَى تلك المقالات الَّتي جَمَعها صاحبها في كِتابٍ، أنْ تُنْبِئَ عنْ مؤلِّف أَعْجَلَهُ النَّشْر وحُسْن الظَّنّ بالنَّفس، والاطمئنان إلى رِضا النُّقَّاد = عنْ أن يُعَاوِد النَّظر في ما يُنْشئه قبل أن يدفع به إلى الصَّحيفة، ثُمَّ مِنْ بعدها إلى المطبعة فيصير مِنْها كِتاب، وحَسِبَ أنَّ كلماتٍ يسيراتٍ يَسُوقُهُنَّ في هذا القاصّ أوْ ذلك الشَّاعر هي كلُّ ما ينتظره القارئ المتذوِّق ويتشوَّف إليه، أوْ أنَّ نَقْد الأدب يَصْلُح فيه أن تضُمَّ الكلمة إلى أُختها، ثُمَّ لا شيء بعد ذلك، وكأنَّما قارئ كِتابه الَّذي أنفق فيه وقتًا يطول أوْ يَقْصُر، كان ما يرجوه مِنْ يوسف نوفل أن يُنْبئه بأنَّ شِعْر محمَّد بن عليّ السّنوسيّ يتميَّز «بالبساطة والتِّلقائيَّة»، وأنَّ محمَّد سليمان الشِّبْل جمع في شِعْره بين التُّراث والمعاصرة، وأنَّ عبد الله الفيصل شاعر وجدانيّ تأثَّرَ بجماعة أبولُّو وشعراء رابطة الأدب الحديث وشعراء المهجر.
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412هـ=1992م