المصطلح وصاحبه
ناقد شنطة
ناقد شنطة
السبت - 17 فبراير 2018
Sat - 17 Feb 2018
مع قرب نشر كتابه الجديد بعنوان «الحنطة والزؤان: نقد الأدب ونقد الشنطة»، يتصدى الباحث والناقد حسين بافقيه لمهمة مزدوجة: إعادة الاعتبار لأستاذ النقد السعودي، الدكتور منصور الحازمي، واستعادة المفهوم الذي بات، اليوم، مُلِّحًّا أكثر من أي وقت مضى: «ناقد شنطة». وبموجب اتفاق بين «مكة» والزميل بافقيه، تنشر الصحيفة على مدى سبع حلقات محتويات الفصل الأول من «الحنطة والزؤان»، وهو العنوان الذي يقول المؤلف إنه ينطلق من روح «المصطلح الحازمي»؛ فالحنطة هي ما هي، أما الزؤان فهو الحب الذي يخالطها فيكسبها رداءة.
كثيرًا ما قرأْنا في تراثنا هذه العِبَارة: «إنَّه امرؤٌ فيه دُعابة»، ومِنَ المألوف والمعتاد أن يَنُصَّ مؤلِّفو السِّيَر والتَّراجم في كُتُبهم على أنَّ المترجَم يُحِبُّ المُزاح، وقدْ كانوا، مِنْ قَبْلُ، يَسُوقون الكلمات في تعداد مآثره وفضائله، ومِقْدار عِلْمه وسعته.
والحقُّ أنَّ مَنِ اتَّصلتْ أسبابه بالدَّكتور منصور إبراهيم الحازميّ (وُلِدَ عام 1354هـ=1935م)، أو اتَّفق أنْ أصغى إليه في محاضرة أدبيَّة، أوْ حديث تلفازيٍّ، أوْ مسامرةٍ في هذا المجلس أوْ ذاك = لا بُدَّ أن يَصِفَ هذا الأديب النَّاقد والأستاذ الجامعيّ الجليل بِجُمْلة أُمُورٍ، مِنْها أنَّه أديبٌ ناقدٌ، فُسِحَتْ له المعرفة بمسائلَ في الأدب والنَّقْد، وأُوتِيَ بيانًا عاليًا، ولُغةً متينةً. لكنَّه سَيَسُوق في وصْفه أنَّه إزاء أستاذٍ خفيفِ الظِّلِّ، لطيفِ المجلسِ، طَرُوبٍ، ساخرٍ، مُحِبٍّ للنُّكتة، لا تَمْلِك، وأنت تُصِيخ إليه سمعك إلَّا أنْ تُحِبَّ حديثه، فَتَوَدُّ لوْ أنَّه ما توقَّف عنه.
ويطيب للأدباء والنُّقَّاد في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة أن يَدْعُوا الدَّكتور منصور الحازميّ بـ«شيخ النُّقَّاد»، ويقيِّد بعضهم هذه العبارة فيقولون: «شيخ النُّقَّاد الأكاديميِّين»، يختصُّون بالأُولى أستاذه وشيخه في مدرسة تحضير البعثات بمكَّة المكرَّمة النَّاقد والمُربِّي عبد الله عبد الجبَّار، ويعيدون إليه ريادة النَّقد المنهجيّ في هذه البلاد، منذ أذاع في النَّاس كتابه التَّيَّارات الأدبيَّة الحديثة في قلب الجزيرة العربيَّة سنة 1379هـ=1959م.
وربَّما عَدَدْنا ما جُبِلَ عليه منصور الحازميّ مِنْ وَلَعٍ بالنُّكتة والدُّعابة خصيصةً جُبِلَ عليها، وربَّما أَحَبَّ أحدُنا أن يَصِلَها بحبلٍ مِنَ التَّاريخ والبيئة، فيرى لها أثرًا فيه لا بُدَّ مِنْ أن يستوقف كلَّ مَنْ عَرَفَه أو اتَّصل به، على نَحْوٍ مِنَ الأنحاء، فالرَّجُل مكِّيّ، وفيه مِنْ أثر مكَّة المكرَّمة - ما يجعلك تَدْهَش له، وقدِ اتَّخذ الرِّياض دارًا وسكنًا، منذ مقتبل شبابه = ما انطبع في رُوحه وعقله ولِسانه، فهو إنْ تَحَدَّثَ إليك، فكأنَّه لمْ يبرَحْ، بَعْدُ، حارَات مكَّة المكرَّمة وأزِقَّتها، تُحِبُّ أنْ ترمي إليه ببصرك، وتُصْغِي إليه سمعك، فتَلَذُّ لك تلك اللَّهجة المَكِّيَّة الحبيبة، فيها مِنْ حاضرة البلد الحرام أثرٌ، وفيها مِنْ منزل أهله وقبيله في «دحلة حرب» أثرٌ آخَرُ، فجاء لسانه جامعًا لمحاسن البادية والحاضرة. لكنَّك، سواءٌ عَدَدْتَه حضريًّا أوْ بدويًّا، فإنَّك، في كلتا الحالتين، لنْ تَجُوز به بطحاء مكَّة وشِعابها و«دَحْلاتها»! بلْ إنَّك ستَعُدُّه مثالًا حيًّا لفعل البيئة والتَّاريخ في الإنسان، ودليلًا صادقًا على ما قرأه القاصي والدَّاني في كُتُب التُّراث عنْ «ظَرْف الحجاز»، ورُوح الدُّعابة القارّ في أهله، وكأنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ إنَّما يُطِلُّ عليك مِنْ صفحة مِنْ صفحات كِتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ، فيُخَيَّل إليك أنَّ الزَّمان عاد بك القهقرَى إلى القرن الأوَّل للهجرة، وضَمَّكَ مجلس حجازيّ مَهِيب بابن أبي عتيق، وشَدَهَكَ ذلك البكريُّ التَّيميُّ القرشيُّ بلسانه العَذْب، ونُكتته البديعة، ورُوحه الحجازيّ السَّاخر، ولا عجب أنْ تتذكَّر ابن أبي عتيق حِين يُساق اسْم الدَّكتور منصور الحازميّ، فكلا الرَّجُلَيْن مَكِّيّ، وكلاهما اتَّخذ نَقْد الأدب حِرْفةً له، وكأنَّه كان لِزَامًا على مكَّة المكرَّمة أنْ يَسُوق نُقَّادها أحكامهم على الأدباء بلهجة جِمَاعُها السُّخْر والدُّعابة، مهما اصطنعوا الجِدَّ وتَكَلَّفوه.
وعندي أنَّ نَقْد الدَّكتور منصور الحازميّ يُذْكِرنا بنَقْد الرُّوَّاد، أولئك الَّذين قرأ لهم حِين هبط مصر، للاختلاف إلى جامعتها، (1374-1378هـ=1954-1958م)، وأولئك الَّذين تَلْمَذَ للجِلَّة مِنْهم، وقدْ كانتْ جامعة القاهرة، آنئذٍ، لا تزال ترفد الثَّقافة العربيَّة بخير العقول. ولستُ أستبعد أنَّه تأثَّر بجمهرة مِنْهم، لَمَّا عَرَفَ، مِنْ كَثَبٍ، طه حسين، وشوقي ضيف، وعبد الحميد يونس، وسَهِير القلماويّ، وحسين نصَّار، وشكري عيَّاد، ويحيى الخشَّاب، وعبد العزيز الأهوانيّ، ومحمَّد كامل حسين. وأهمُّ ما يستجلب النَّظر في أولئك الرُّوَّاد، أنَّه تَجَسَّدَ فيهم رُوح الجامعة الجديد، ولمْ يزلْ لِرُوح البيان العربيّ القديم سلطان عليهم. أمَّا الجامعة فيظهر أثرها واضحًا جليًّا فيما أخذ به أساتذتها وطُلَّابها مِنْ مناهج الدَّرْس والبحث، منذ دافع طه حسين عنْ رسالته تجديد ذِكْرَى أبي العلاء، وقبل أنْ يَشُدَّ الرِّحال إلى فرنسة، ويَغْشَى جامعاتها، حتَّى إذا عاد، زَيَّنَ لطلَّابه وزملائه في الجامعة المصريَّة أُصُول المنهج والبحث، وكان له مِنْ ذلك ما قرأْناه في كِتابه في الأدب الجاهليّ.
لكنَّ طه حسين – وتستطيع أنْ تضمَّ إليه طائفةً مِنْ أساتذة الجامعة – كان أدنى إلى شيخه سيِّد بن عليّ المرصفيّ، في فِقْه النُّصُوص والآثار الأدبيَّة. وأنتَ تَعْرِف أنَّه لا يزال للبيان العربيّ، حتَّى ذلك الأوان، سطوته على أصحاب الأساليب، وكان للرَّجُل ذوقٌ عالٍ، وفَهْمٌ صحيحٌ لشِعْر العرب ولُغتهم، سَقَطَ إلينا أثرٌ مِنْه، حِين حفظ التَّاريخ شرْحه الباذخ لكِتاب الكامل للمبرِّد، وحِين أتحفتْنا الأيَّام بشرْحه النَّفيس لديوان الحماسة. على أنَّ سيِّد بن عليّ المرصفيّ وتلميذه طه حسين، بلْ وزكيّ مبارك ومحمود محمَّد شاكر = إنَّما يرتفع نَسَبُهم، في اصطناعهم هذا المنهج، إلى الأستاذ الإمام الشَّيخ محمَّد عبده، ذلك المفتي الَّذي أَخَذَ على نفسه إحياء تراث العرب وبَثِّ الأساليب العالية في عَصْرِيِّيه، منذ أدخل كِتابَيْ دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانيّ إلى أروقة الجامع الأزهر، فَعَرَفَ الأشياخ، وعَرَفَ الطُّلَّاب أنَّ في البيان العربيّ غير ما اعتادوه، جيلًا بعد جيلٍ، مِنَ المُتُون والحواشي والتَّعليقات، وامتدَّ أثر هذا المذهب في تَذَوُّق الآثار إلى الجامعة، فلا يزال للبيان العربيّ سطوته، قبل أنْ تستعجم الدِّيار فلا تكاد تتكلَّم إلَّا بلسانٍ يرتضخ لكنة أعجميَّة!
إذنْ، في نَقْد منصور الحازميّ ما في نَقْد الأساتذة مِنَ الرُّوَّاد، أولئك الَّذين اتَّصل بهم في جامعة القاهرة، لا تخطئ العين أنَّك بإزاء أستاذٍ جامعيٍّ يُنْزِل المنهج منزلته، لكنَّك تُحِسُّ، وأنت تقرأ فُصُوله النَّقديَّة، أنَّك تقرأ نَقْدًا أدبيًّا فيه مِنْ رُوح الأدب الخالص سِماتٌ، يعجبك ما انطوى عليه مِنْ أثر العِلْم وذكاء النَّاقد، ويَلَذُّ لك أنْ تقرأه، لأنَّك إنَّما تقرأ نَقْدًا عليه مِنْ رُوح الأدب مِسْحةٌ، حتَّى إنَّك مستطيعٌ أنْ تَدْعُوَ هذا الضَّرْب مِنَ النَّقْد الأدبيّ «أدبًا نقديًّا»، دون أن يماريك في ما تذهب إليه مُمَارٍ، فنَقْد الأدب، عند الجِلَّة مِنْ أصحابه، في القديم والحديث، لا يزال لنفس كاتبه ورُوحه سلطان عليه، فهو، مهما اتَّصل بمناهج العِلْم ومذاهب الفلسفة، مُشَاكِلٌ للأثر المدروس، وفيه ما في ذلك الأثر مِنْ شوق الإنسان وتوقه، وفرحه وتَرَحه. يَجِدُّ حِين يَجِدُّ كاتبه، ويَسْخر حِين يَسْخر صاحبه، لكنَّه – مهما تَعَدَّدَتْ أحواله – جديرٌ به أنْ لا يَعْدُوَ رُوح النَّقْد والبَصَر باللُّغة والأدب والعِلْم. كلُّ ذلك بَيِّنٌ في نَقْد منصور الحازميّ، منذ تسلَّح بِرُوح المنهج في جامعة القاهرة، أوَّلًا، ثُمَّ في مدرسة الدِّراسات الشَّرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن، آخِرًا، ومنذ اتَّخَذَ النَّقْد الأدبيّ ذريعةً للاتِّصال بجمهرة القُرَّاء، فأحسُّوا أنَّهم يقرأون كلامًا جديرًا بأن يُنْسَب إلى العِلْم وإلى الجامعة، دون أنْ يَقْطَع ما بينه وبين الأدب والبيان.
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412 هـ = 1992 م
@hussain_bafagih
كثيرًا ما قرأْنا في تراثنا هذه العِبَارة: «إنَّه امرؤٌ فيه دُعابة»، ومِنَ المألوف والمعتاد أن يَنُصَّ مؤلِّفو السِّيَر والتَّراجم في كُتُبهم على أنَّ المترجَم يُحِبُّ المُزاح، وقدْ كانوا، مِنْ قَبْلُ، يَسُوقون الكلمات في تعداد مآثره وفضائله، ومِقْدار عِلْمه وسعته.
والحقُّ أنَّ مَنِ اتَّصلتْ أسبابه بالدَّكتور منصور إبراهيم الحازميّ (وُلِدَ عام 1354هـ=1935م)، أو اتَّفق أنْ أصغى إليه في محاضرة أدبيَّة، أوْ حديث تلفازيٍّ، أوْ مسامرةٍ في هذا المجلس أوْ ذاك = لا بُدَّ أن يَصِفَ هذا الأديب النَّاقد والأستاذ الجامعيّ الجليل بِجُمْلة أُمُورٍ، مِنْها أنَّه أديبٌ ناقدٌ، فُسِحَتْ له المعرفة بمسائلَ في الأدب والنَّقْد، وأُوتِيَ بيانًا عاليًا، ولُغةً متينةً. لكنَّه سَيَسُوق في وصْفه أنَّه إزاء أستاذٍ خفيفِ الظِّلِّ، لطيفِ المجلسِ، طَرُوبٍ، ساخرٍ، مُحِبٍّ للنُّكتة، لا تَمْلِك، وأنت تُصِيخ إليه سمعك إلَّا أنْ تُحِبَّ حديثه، فَتَوَدُّ لوْ أنَّه ما توقَّف عنه.
ويطيب للأدباء والنُّقَّاد في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة أن يَدْعُوا الدَّكتور منصور الحازميّ بـ«شيخ النُّقَّاد»، ويقيِّد بعضهم هذه العبارة فيقولون: «شيخ النُّقَّاد الأكاديميِّين»، يختصُّون بالأُولى أستاذه وشيخه في مدرسة تحضير البعثات بمكَّة المكرَّمة النَّاقد والمُربِّي عبد الله عبد الجبَّار، ويعيدون إليه ريادة النَّقد المنهجيّ في هذه البلاد، منذ أذاع في النَّاس كتابه التَّيَّارات الأدبيَّة الحديثة في قلب الجزيرة العربيَّة سنة 1379هـ=1959م.
وربَّما عَدَدْنا ما جُبِلَ عليه منصور الحازميّ مِنْ وَلَعٍ بالنُّكتة والدُّعابة خصيصةً جُبِلَ عليها، وربَّما أَحَبَّ أحدُنا أن يَصِلَها بحبلٍ مِنَ التَّاريخ والبيئة، فيرى لها أثرًا فيه لا بُدَّ مِنْ أن يستوقف كلَّ مَنْ عَرَفَه أو اتَّصل به، على نَحْوٍ مِنَ الأنحاء، فالرَّجُل مكِّيّ، وفيه مِنْ أثر مكَّة المكرَّمة - ما يجعلك تَدْهَش له، وقدِ اتَّخذ الرِّياض دارًا وسكنًا، منذ مقتبل شبابه = ما انطبع في رُوحه وعقله ولِسانه، فهو إنْ تَحَدَّثَ إليك، فكأنَّه لمْ يبرَحْ، بَعْدُ، حارَات مكَّة المكرَّمة وأزِقَّتها، تُحِبُّ أنْ ترمي إليه ببصرك، وتُصْغِي إليه سمعك، فتَلَذُّ لك تلك اللَّهجة المَكِّيَّة الحبيبة، فيها مِنْ حاضرة البلد الحرام أثرٌ، وفيها مِنْ منزل أهله وقبيله في «دحلة حرب» أثرٌ آخَرُ، فجاء لسانه جامعًا لمحاسن البادية والحاضرة. لكنَّك، سواءٌ عَدَدْتَه حضريًّا أوْ بدويًّا، فإنَّك، في كلتا الحالتين، لنْ تَجُوز به بطحاء مكَّة وشِعابها و«دَحْلاتها»! بلْ إنَّك ستَعُدُّه مثالًا حيًّا لفعل البيئة والتَّاريخ في الإنسان، ودليلًا صادقًا على ما قرأه القاصي والدَّاني في كُتُب التُّراث عنْ «ظَرْف الحجاز»، ورُوح الدُّعابة القارّ في أهله، وكأنَّ الدَّكتور منصور الحازميّ إنَّما يُطِلُّ عليك مِنْ صفحة مِنْ صفحات كِتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ، فيُخَيَّل إليك أنَّ الزَّمان عاد بك القهقرَى إلى القرن الأوَّل للهجرة، وضَمَّكَ مجلس حجازيّ مَهِيب بابن أبي عتيق، وشَدَهَكَ ذلك البكريُّ التَّيميُّ القرشيُّ بلسانه العَذْب، ونُكتته البديعة، ورُوحه الحجازيّ السَّاخر، ولا عجب أنْ تتذكَّر ابن أبي عتيق حِين يُساق اسْم الدَّكتور منصور الحازميّ، فكلا الرَّجُلَيْن مَكِّيّ، وكلاهما اتَّخذ نَقْد الأدب حِرْفةً له، وكأنَّه كان لِزَامًا على مكَّة المكرَّمة أنْ يَسُوق نُقَّادها أحكامهم على الأدباء بلهجة جِمَاعُها السُّخْر والدُّعابة، مهما اصطنعوا الجِدَّ وتَكَلَّفوه.
وعندي أنَّ نَقْد الدَّكتور منصور الحازميّ يُذْكِرنا بنَقْد الرُّوَّاد، أولئك الَّذين قرأ لهم حِين هبط مصر، للاختلاف إلى جامعتها، (1374-1378هـ=1954-1958م)، وأولئك الَّذين تَلْمَذَ للجِلَّة مِنْهم، وقدْ كانتْ جامعة القاهرة، آنئذٍ، لا تزال ترفد الثَّقافة العربيَّة بخير العقول. ولستُ أستبعد أنَّه تأثَّر بجمهرة مِنْهم، لَمَّا عَرَفَ، مِنْ كَثَبٍ، طه حسين، وشوقي ضيف، وعبد الحميد يونس، وسَهِير القلماويّ، وحسين نصَّار، وشكري عيَّاد، ويحيى الخشَّاب، وعبد العزيز الأهوانيّ، ومحمَّد كامل حسين. وأهمُّ ما يستجلب النَّظر في أولئك الرُّوَّاد، أنَّه تَجَسَّدَ فيهم رُوح الجامعة الجديد، ولمْ يزلْ لِرُوح البيان العربيّ القديم سلطان عليهم. أمَّا الجامعة فيظهر أثرها واضحًا جليًّا فيما أخذ به أساتذتها وطُلَّابها مِنْ مناهج الدَّرْس والبحث، منذ دافع طه حسين عنْ رسالته تجديد ذِكْرَى أبي العلاء، وقبل أنْ يَشُدَّ الرِّحال إلى فرنسة، ويَغْشَى جامعاتها، حتَّى إذا عاد، زَيَّنَ لطلَّابه وزملائه في الجامعة المصريَّة أُصُول المنهج والبحث، وكان له مِنْ ذلك ما قرأْناه في كِتابه في الأدب الجاهليّ.
لكنَّ طه حسين – وتستطيع أنْ تضمَّ إليه طائفةً مِنْ أساتذة الجامعة – كان أدنى إلى شيخه سيِّد بن عليّ المرصفيّ، في فِقْه النُّصُوص والآثار الأدبيَّة. وأنتَ تَعْرِف أنَّه لا يزال للبيان العربيّ، حتَّى ذلك الأوان، سطوته على أصحاب الأساليب، وكان للرَّجُل ذوقٌ عالٍ، وفَهْمٌ صحيحٌ لشِعْر العرب ولُغتهم، سَقَطَ إلينا أثرٌ مِنْه، حِين حفظ التَّاريخ شرْحه الباذخ لكِتاب الكامل للمبرِّد، وحِين أتحفتْنا الأيَّام بشرْحه النَّفيس لديوان الحماسة. على أنَّ سيِّد بن عليّ المرصفيّ وتلميذه طه حسين، بلْ وزكيّ مبارك ومحمود محمَّد شاكر = إنَّما يرتفع نَسَبُهم، في اصطناعهم هذا المنهج، إلى الأستاذ الإمام الشَّيخ محمَّد عبده، ذلك المفتي الَّذي أَخَذَ على نفسه إحياء تراث العرب وبَثِّ الأساليب العالية في عَصْرِيِّيه، منذ أدخل كِتابَيْ دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجانيّ إلى أروقة الجامع الأزهر، فَعَرَفَ الأشياخ، وعَرَفَ الطُّلَّاب أنَّ في البيان العربيّ غير ما اعتادوه، جيلًا بعد جيلٍ، مِنَ المُتُون والحواشي والتَّعليقات، وامتدَّ أثر هذا المذهب في تَذَوُّق الآثار إلى الجامعة، فلا يزال للبيان العربيّ سطوته، قبل أنْ تستعجم الدِّيار فلا تكاد تتكلَّم إلَّا بلسانٍ يرتضخ لكنة أعجميَّة!
إذنْ، في نَقْد منصور الحازميّ ما في نَقْد الأساتذة مِنَ الرُّوَّاد، أولئك الَّذين اتَّصل بهم في جامعة القاهرة، لا تخطئ العين أنَّك بإزاء أستاذٍ جامعيٍّ يُنْزِل المنهج منزلته، لكنَّك تُحِسُّ، وأنت تقرأ فُصُوله النَّقديَّة، أنَّك تقرأ نَقْدًا أدبيًّا فيه مِنْ رُوح الأدب الخالص سِماتٌ، يعجبك ما انطوى عليه مِنْ أثر العِلْم وذكاء النَّاقد، ويَلَذُّ لك أنْ تقرأه، لأنَّك إنَّما تقرأ نَقْدًا عليه مِنْ رُوح الأدب مِسْحةٌ، حتَّى إنَّك مستطيعٌ أنْ تَدْعُوَ هذا الضَّرْب مِنَ النَّقْد الأدبيّ «أدبًا نقديًّا»، دون أن يماريك في ما تذهب إليه مُمَارٍ، فنَقْد الأدب، عند الجِلَّة مِنْ أصحابه، في القديم والحديث، لا يزال لنفس كاتبه ورُوحه سلطان عليه، فهو، مهما اتَّصل بمناهج العِلْم ومذاهب الفلسفة، مُشَاكِلٌ للأثر المدروس، وفيه ما في ذلك الأثر مِنْ شوق الإنسان وتوقه، وفرحه وتَرَحه. يَجِدُّ حِين يَجِدُّ كاتبه، ويَسْخر حِين يَسْخر صاحبه، لكنَّه – مهما تَعَدَّدَتْ أحواله – جديرٌ به أنْ لا يَعْدُوَ رُوح النَّقْد والبَصَر باللُّغة والأدب والعِلْم. كلُّ ذلك بَيِّنٌ في نَقْد منصور الحازميّ، منذ تسلَّح بِرُوح المنهج في جامعة القاهرة، أوَّلًا، ثُمَّ في مدرسة الدِّراسات الشَّرقيَّة والإفريقيَّة بجامعة لندن، آخِرًا، ومنذ اتَّخَذَ النَّقْد الأدبيّ ذريعةً للاتِّصال بجمهرة القُرَّاء، فأحسُّوا أنَّهم يقرأون كلامًا جديرًا بأن يُنْسَب إلى العِلْم وإلى الجامعة، دون أنْ يَقْطَع ما بينه وبين الأدب والبيان.
على أنَّني، والحقُّ يُقال، أحاول – طوال الثَّلاثين عامًا الماضية – أنْ أَجِدَ كِتابًا واحدًا مِنْ كُتُبنا على أسوار حديقة الأزبكيَّة بالقاهرة، فأضناني البحث واستسلمْتُ لليأس.
ومع ذلك، فقدْ رأيْنا بعض المؤلَّفات تُخَصَّص لبعض أدبائنا الَّذين لمْ يَبْلغوا، بَعْدُ، سِنَّ النُّضْج، كما رأيْنا بعض المجلَّات العربيَّة تُخَصِّص بعض أعدادها للأدب السُّعُوديّ الحديث، وتلك صورة مِنْ صُوَر الاحتراف.
منصور الحازمي
1412 هـ = 1992 م
@hussain_bafagih