نصوص وطنية مفقودة

في يوم من أيامنا الوطنية

في يوم من أيامنا الوطنية

السبت - 20 سبتمبر 2014

Sat - 20 Sep 2014



في يوم من أيامنا الوطنية..كنت حينها في المرحلة الابتدائية، لفت نظر الصغير تغير محتوى الجرائد بالكامل مع صور جديدة، وكنوع من الهوايات الطفولية أخذت بقص العديد من الصفحات والصور لوضع هذه القصاصات في ألبوم خاص، كانت مفاجئة الصغير واكتشافه المثير أنه في أعوام تالية وجد أن هذا المحتوى لا يتغير ويكرر كل عام.

ثم كبرنا وبدأنا نلوم الإعلام والصحافة على صناعة الملل وفقدان المفاجئات في هذا اليوم، قبل أن تنكشف لنا التقاليد الإعلامية المقيدة للإبداع الصحفي، ثم كبر الإعلام ذاته وتضخمت الصحافة وتحللت من بعض قيودها وأصبح الجميع يعيش في شروط ليست خاضعة لذوقه ومتطلباته.

وبدأت هذه البنى الوطنية القديمة في تشكل مفهوم الوطن والوطنية تتشوه في بعض ملامحها، وأصبحت المشكلة أكبر من ذهنية وقدرات خبير العلاقات العامة، ورؤية الرسمي المحاط بأولويات محددة.

لم يعد الجيل الجديد الذي ولد منذ ربع قرن يتشكل وعيه الوطني وفق نماذج محددة، ففي اللحظة التي فقد فيها الاتصال بالرؤى التقليدية عبر مصادرها وقنواتها، لم تتشكل لديه رؤية جديدة في نمو الحس الوطني.

بناء الوعي الوطني تعرض مع متغيرات كثيرة لبعض التشوهات، ووجدت ولا تزال محاولات عديدة لترميم الخلل في التعليم والخطاب الإعلامي والديني.

في جيل سابق كانت البرامج الوثائقية عن النهضة والتطور تؤدي دروا مهما في الشعور بالوطن، وكانت الأرقام مع كل خطة تنموية وميزانية لها جاذبية وشعور بقيمة المنجز في حوارات المجالس والجلسات الخاصة، عندما تقارن ذلك بما يحدث الآن سنجد أن أرقام المشاريع فقدت هذه الجاذبية، إن لم تكن ترتد سلبيا بأن تكون مناسبة للتذمر والحديث عن الفساد، وحتى عرضها إعلاميا ووثائقيا لم يعد قادرا على كسب المشاهد الآن.

لا نستطيع أن نستمر بتوزيع اللوم على هذه الجهة وتلك أو ذلك التيار، إذا لم تتطور رؤيتنا للقضية بأنها تحد بذاتها، وأن تراكم الأعمال الوطنية بحاجة لوعي فكري ونقدي من نوع خاص، وأننا بحاجة للتعامل مع هذا الوعي بعيدا عن التسيس من أي نوع، فهو يفسد ويضعف قيمة هذه الأعمال، وأننا بحاجة لأعمال ثقافية قادرة على تنمية الحس الوطني بمعزل عن المواقف والظروف الصراعية اللحظية.

فالرؤى التقليدية التي تصنعها ذهنية إدارات العلاقات العامة في عدة جهات، هي خطاب خدمي، والخطاب المنتج في مواد وأفلام عن الوطن في عدة مناسبات ليس ثريا بالأفكار، ويبدو باهتا، ولا يتم تداوله ومناقشته..في دوائر عديدة.

قدرات هذه الجهات مقيدة بظروفها الرسمية..ويبدو أن استمرار توجيه اللوم لها ليس مجديا أيضا، فصناعة هذه الأفكار أكبر من قدراتها.

هناك نماذج تاريخية لأعمال إعلامية تستحق التقدير وإعادة النظر بتجربتها، كالبرنامج الشهير بعنوانه «ربوع بلادي» الذي كان يعده ويقدمه خالد زارع، وأخراج يحيى توفيق..ومع أن البرنامج يبدو للأطفال إلا أن محتواه متقدم في التعريف ببلدات وقرى ومدن سعودية كثيرة، وأسلوب إخراجه غير تقليدي، وحتى النص للبرنامج ثري بالمعلومات.

أدرك أن البرنامج أصبح في مراحل لاحقة..لا يستعمل عنوانه إلا للسخرية والتنكيت بين سطور بعض الكتابات والتعليقات العابرة عن إعلامنا التقليدي، والواقع أن هذا التنميط ظلم هذا البرنامج الناجح كثيرا، وترك غيرها من البرامج الفاشلة التي لا يذكرها أحد! الرؤى التي تشترط مسبقا شكلا معينا للوطن عبر رؤية دينية أو سياسية هي مشكلة بذاتها، فهو (صاحب الرؤية) لا يفصل بين الوطن ورؤيته النقدية ورؤيته للتاريخ والواقع وطموحات وأحلام هي من حق أي فرد في التعبير عنها.

ويبدو لي أن إدخال الوطنية بالتهم المتبادلة في الصراعات والخصومات ضررها أكثر من نفعها، على تنمية الحس الوطني..وينجح فقط في تراكم أحقاد وخلق تشوهات داخلية.

الرؤى التي تريد أن تصمم نوعا معينا للخطاب، تضع فيه معاييرها الوطنية الخاصة ستعوق أي تقدم في هذا الشأن، فالوطن واسع جدا جدا..بحاجة لملايين من النصوص الثقافية والأعمال الجادة في كل مجال، والتي لن تقوم بها جهة واحدة، أو عدد محدود من النخب.

فالنصوص الخالدة التي ستبقى في ذاكرة كل الأجيال لن توجد الآن وفي المستقبل بدون عدد غير محدود من المحاولات.

أعجبتني عبارة قالها أحمد أبو دهمان في لقاء له قبل شهرين، وعشق أبو دهمان للقرية أحد النماذج التي يمكن أن تدرس: «هذه البلاد بلا مثقف تظل لوحة سوداء..هي وغيرها، يظل الوطن غابة».

فبدون دور المثقف..لن تُفهم الأوطان..أي وطن لن يتم الوعي به إلا عبر خطاب ثقافي.