جمال الغيطاني.. تجلِّيات الحجّ

الجمعة - 25 أغسطس 2017

Fri - 25 Aug 2017

ظهر أثر صنعة القصّ جليًّا على يوميَّات جمال الغيطانيّ في الحجّ، تلك الَّتي دعاها حَمَام الحِمَى، وأثبت فيها شيئًا مِمَّا وقع له في رحلته إلى الحجّ سنة 1412هـ، فكانتْ هذه «اليوميَّات»، على إيجازها، ضرْبًا جديدًا في الرِّحلات الحجازيَّة، فصاحب هذه «الرِّحلة» روائيّ عَرَفَ ألوانًا مختلفاتٍ لصنعة القصّ، ومهر في تطويع التَّاريخ للرِّواية، حتَّى عُرِفَ بها ودَلَّتْ عليه.

لنْ نجد في حَمَام الحِمَى ما اعتدْنا مطالعته في كُتُب الرِّحلة الحجازيَّة منذ ابن جبير، وإلى محمَّد لبيب البتنونيّ، فكلُّ تلك الرِّحلات، على جلالها ومقامها، إنَّما تعتزي إلى نوع الرِّحلة بتقاليده العريقة في الأدب العربيّ، أمَّا ما أنشأه جَمَال الغيطانيّ ففيه مِنْ تلك الرِّحلات مَشَابه، في خُلُوصها كلِّها لموضوع واحد، لكنَّه يختلف عنها، في أنَّه اصطنع نوع «اليوميَّات»، وإنْ لمْ يتقيَّد به تقيُّدًا كاملًا، وواتتْه معرفته بصنعة القَصّ في أن اصطنع أسلوب «النَّجوى» في تأمُّل شعيرة الحجّ، واستحالتْ تلك الشَّعيرة إلى رُموز لا تَنِي تبعث فيه ألوانًا مِنَ القراءة والتَّأويل، فكان «واحدًا» في «الجماعة»، يؤدِّي ما يؤدُّونه، على وفق أحكام الحجّ، لكنَّه سرعان ما يلوذ بنفسه، ليحكي «قِصَّته» هو و»روايته» هو، وليس سوى «النَّجوى» ذريعةً لحالته تلك، فتختلط الأزمنة، ويعبر القرون، وليس له مِنْ وُجْهةٍ إلَّا القرن الهجريّ الأوَّل، وكان شخصين في جسد واحد، أمَّا أوَّلهما فجَمَال الغيطانيّ الَّذي يعيش بين النَّاس، وأمَّا الآخر فجَمَال الغيطانيّ الَّذي ما خطا خطوةً في مكَّة المكرَّمة، أوَّلًا، ثُمَّ المدينة المنوَّرة، آخِرًا، إلَّا وكان يبحث حوله عنْ أثرٍ للنَّبيّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وصحبه الكرام، مهما تباعدتِ الأمكنة، وتباينتِ الأزمنة.

«حالان غمراني روحًا وجسدًا بمجرَّد نزولي المدينة المنوَّرة، حتَّى إنَّ خطوي تَبَدَّلَ إيقاعه، وصار لنظراتي معانٍ أخرى ومرامٍ كثيرة، فكلُّ هذه الجبال المحيطة رآها المصطفى بعينيه، وتلك الأرض وطئها بقدميه، فربَّما أضع عند المشي خُفِّي في نفس المكان، وما تلك النَّخيل المتجاورة، المتراصَّة إلَّا مِنْ نسْل النَّخيل الَّتي أظلَّتِ الرَّسول وصحبه يومًا».

وهذه الحالة الَّتي أَحَسَّها جَمَال الغيطانيّ في المدينة المنوَّرة، توشك أنْ تشبه ما كان عليه بعض المتصوِّفة، بلْ توشك أنْ تشبه تلك الحالة الَّتي أحسَّها طه حسين يوم زار المدينة المنوَّرة، فلمَّا أراده الصَّحفيُّون على أن يقول شيئًا تُذيعه الصُّحف، أبى أن يتكلَّم تأدُّبًا مع صاحب الرِّسالة – عليه الصَّلاة والسَّلام – وكأنَّما كان طه حسين، وجَمَال الغيطانيّ، بلْ وكأنَّما كان كلُّ مَنْ زار تلك الأمكنة الشَّريفة = يودُّ لوْ يخلو بنفسه عن النَّاس، فذلك أدْعى إلى أن يبصر بعين الفؤاد جمال تلك الأمكنة، وإنْ لمْ تُسْعفهم جميعًا الكلمات كما أسعفت الغيطانيّ فكانت مِنْها هذه التَّجلِّيات، وهو في حضرة النَّبيّ المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم -:

«انبثق عندي إحساس بالأمن العميق، كنتُ مستسلمًا تمامًا ليس للجمع الكثيف الَّذي يتدافع بوقار متمهِّل، وإنَّما لعوالمي الدَّاخليَّة للمعاني الَّتي تلوح عندي، حريصًا على اجتياز وقتي هذا. هنا كلُّ المعاني، والأصول، هنا جَدِّي الأعظم والوالد الأكبر لهذه الأُمَّة الإنسانيَّة، إليه أنتسب بإيماني برسالته، هنا الشَّفيع الأكبر، مَنْ أتوسَّل به وألوذ عندما تلوح الكُرَب العظام وساعات الضِّيق، عندما تتواتر الحدثان، وينأى الصَّديق، ويدنو العدوّ.

ها أنذا بين يديْ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – مَنْ سَبَّحَ الحصا بين يديه، ولان له الصَّخر، وحَنَّ له الجِذْع، مَنْ حمل الرِّسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأُمَّة، وما هؤلاء البشر كلُّهم القادمون للزِّيارة إلَّا نفرٌ يسير مِنْ أمَّته الإنسانيَّة»

ويظهر لي أنَّ جمال الغيطانيّ لمْ يشأْ أن يكتب في الحجّ رواية، ولا أُقصوصة، وهو ابن الصَّنعة، واكتفى بأن يدوِّن يوميَّاته تلك، وكانتْ بوحًا صوفيًّا لعاشق جاز البحر والصَّحراء حتَّى يبلغ محبوبه، وكأنَّه فصل ما بين ضربين مِنَ الكتابة: ضرب مجاله الدِّين والرُّوح، وضرب مجاله الدُنْيا، وعساه أراد أن ينجو بروحه بعيدًا مِنْ مشاغبة الفنّ وسلطان القصّ، فكان حاجًّا مِنْ أولئك الملايين الَّذين تَجَرَّدوا لتلك الشَّعيرة، فساروا على خُطَا إبراهيم الخليل – عليه السَّلام – وها هو ذا صاحب التَّجلِّيات يسير في نهر مِنَ البياض، إنَّه كَتَبَ، قبل ذلك، «تاريخ» الجماعة، وما أحراه، اليومَ، أن يكتب «تاريخه» هو، وما اضطرب له فؤاده ونفسه.

@hussain_bafagih

الأكثر قراءة