حسين بافقيه

الثَّقافة الحديثة في المدينة المنوَّرة

السبت - 06 مايو 2017

Sat - 06 May 2017

كتب عبدالقدُّوس الأنصاريّ عنْ تاريخ الثَّقافة في المدينة المنوَّرة، وأعاد الفضل في نشوء الأدب الحديث والثَّقافة الحديثة فيها إلى اثنين مِنْ مثقَّفيها وأدبائها، أمَّا الأوَّل فهو عبيد مدنيّ، وأمَّا الآخِر فهو عبدالقدُّوس الأنصاريّ نفسه، وكان مِمَّا ذكره صاحب «المنهل» – رحمه الله – أنَّ المدينة المنوَّرة كانتْ فقيرة إلى الثَّقافة الحديثة، قبل أن ينشأ هو ورفيقه، وأنَّه بوُسْعنا أنْ نؤرِّخ لها ساعة أنشأ ذانك الرَّفيقان يكتبان.



وأنا لا أبخس الرَّجُلين حقَّهما، وقدْ أصابا مِنَ الأدب والثَّقافة مقدارًا صالحًا، وأعرف سهمهما فيهما، غير أنَّ كلام عبدالقدُّوس الأنصاريّ يُظْهر المدينة المنوَّرة عاريَة مِنْ تلك الثَّقافة، ويَقْصُر الثَّقافة الحديثة عليهما، وهنا موضع الخلاف.



والحقّ أنَّ المدينة المنوَّرة أصابتْ مِنَ الثَّقافة الحديثة قَدْرًا صالحًا، قبل أن يخطّ عبيد مدنيّ وعبدالقدُّوس الأنصاريّ سوادًا في بياض؛ عرفتْ ألوانًا مِنْ تلك الثَّقافة فيما أنشأه جمهرة مِنْ أبنائها انقطعوا إلى الأدب والشِّعْر حتَّى عُرِفوا بهما، وحَسْبُنا أنْ نذكر، هنا، عالم المدينة ومحدِّثها عبدالجليل برَّادة، وكان الرَّجُل أديبًا فقيهًا محدِّثًا له مكانته في العالَم الإسلاميّ كلِّه، بلْ إنَّه كان مولعًا بالتَّحديث مشغوفًا به، وبلغ به ذلك أنْ زيَّن للشَّاعر التُّونسيّ محمَّد السّنوسيّ نَظْم قصائد يذكر فيها المكتشفات الحديثة على معهود شعراء ذلك الزَّمان في التَّجديد، ونعرف مِنْ سيرة العالم الشَّنقيطيّ الجليل محمَّد بن محمود بن التَّلاميد التَّركزيّ مقدار إجلاله لذلك العالم والأديب المدنيّ، ولمْ يكن ابن التَّلاميد ليُقِرَّ لأحد بالعِلْم إلَّا للآحاد، مِنْهم عبدالجليل برَّادة في المدينة المنوَّرة، والأستاذ الإمام محمَّد عبده في مصر.



ومَن يظهر على ديوان الشَّاعر المدنيّ إبراهيم الأُسكوبيّ (ت 1323هـ)، يدرك أنَّه إزاء شاعر أخذ على نفسه إحياء القصيدة العربيَّة، حين أعاد إليها روحها وقوَّتها، فأنشأ قصائد عليها سيماء الشِّعر العربيّ القديم، وبَرِئَ شِعْره مِنَ الضَّعف واللِّين اللَّذين أصابا شِعْر معاصريه، وكانتْ قصائده مُشْبهة شِعْر الفحول المتقدِّمين في الأدب العربيّ القديم، بلْ إنَّه نَظَمَ قصائد طريفة عالج فيها شؤونًا حلا لغير شاعر مِنَ الشُّعراء العرب المعاصرين النَّظْم فيها، ذكر فيهنَّ شيئًا مِنْ ألوان الحضارة الجديدة الَّتي عرفها مجتمعه، ومنها «مفاخرة» طريفة بين «وابور البحر» و»وابور البرّ». غير أنَّ أهمَّ ما حقَّقه الأُسكوبيّ في الشِّعْر أنَّه أعاد إليه مائيَّته ورُواءَه وقوَّته.



وفي سيرة محمَّد حسين زيدان البديعة «ذكريات العهود الثَّلاثة» يُظْهرنا هذا الأديب المدنيّ الكبير على ألوان مِنَ الثَّقافة الحديثة أصابها المدنيُّون ومَنْ نزل في ساحتهم مِنْ المثقَّفين العرب والمسلمين، ويكفي أنْ نشير إلى شيخه محمَّد عبدالقادر الكيلانيّ، وكان زيدان لهجًا به، وكان عارفًا بالفلسفة والاجتماع، حتى إنَّه لَيُلَقَّب بـ»ابن خلدون»، ولا شكّ أنَّنا نقف في تلك السيرة على ضُروب مختلفة مِنْ تلك الثَّقافة الَّتي عرفتْها المدينة المنوَّرة حين اتَّصلت أسباب نفرٍ مِنْ دعاة النَّهضة بها وبأبنائها، ويكفي أنْ نقرأ في «ذكريات العهود الثَّلاثة» أسماء شكيب أرسلان، وعبدالحميد بن باديس، ومحمَّد البشير الإبراهيميّ، وعبدالعزيز جاويش، وأحمد لطفي السَّيِّد، بلْ إنَّنا لا نستطيع أنْ نُغْفل صلة جمهرة مِنَ المدنيِّين بروَّاد النَّهضة الإصلاحيَّة وطلائعها، فالسَّيِّد الصَّافي الجفريّ كان صديقًا للمصلح الكبير جمال الدِّين الأفغانيّ، وواحدًا مِنَ العرب المقرَّبين مِنَ «الباب العالي»، يسمع له السُّلطان العثمانيّ ويستشيره فيما ينزل بالأُمَّة، وفي ذلك العهد المتقدِّم – أواخر العصر العثمانيّ - اتَّصلتْ كوكبة مِنْ أبناء المدينة المنوَّرة بالتَّعليم الجامعيّ في غير ناحية مِنْ بلاد العرب والمسلمين، وكانوا طلائع الثَّقافة الحديثة فيها.