عبدالعزيز الخضر

مواجهة الخطاب التعبوي.. في رؤية التغيير والممانعة

الأحد - 19 مارس 2017

Sun - 19 Mar 2017

زخم المتغيرات الكونية المتسارعة في عالم اليوم بدأ يقتحم كل تفاصيل حياة المجتمع بمعدل أسرع من معدلات عقود سابقة، فما كان يحتاج عقودا أصبح يحدث بسنوات قليلة، وأخذ يفرض أنماطا جديدة خلال فترات قصيرة، بما يفوق قدرة الممانعات الرسمية والدينية والاجتماعية، وما يبدو غير مقبول ويمثل خصوصيات اجتماعية وتاريخية بدأ يتخلخل تدريجيا.



كثير ممن يتناول الشأن العام من اتجاهات مختلفة يقفزون على تفاصيل التحول والتعثر التاريخي والتنموي، وهي ليست مجرد حكايات تاريخية للتسلية والتنكيت، وإنما لها دور رئيس للوعي بتطور فكرنا الحضاري والإداري والسياسي والديني والاجتماعي، فكثير ممن تدخل معه في نقاش تكتشف أن أول علة لديه تفسد تصوراته للواقع أنه يفتقد للإحساس بنوعية التغيير والممانعة التي تحدث وطبيعتها، وتجد أن خارطة التصورات لديه عن المجتمع والدولة مأزومة باستمرار باتجاه أحدهما.. عبر صناعة عدو وحيد يتسلى بالصراعات معه.



وتنشأ في حالات كثيرة معارك خاطئة باتجاه ما هو هامشي في أسباب الجمود أو التحول، ويشترك في ذلك داعية المحافظة مع داعية التغيير، فيتعثر الوعي العام ويشحن، ويكون في أي لحظة عرضة لانتكاسات عديدة، فلم يفد الخطاب الديني من حضوره الواسع في مرحلة تسيده للتوجيه وجاذبيته في صناعة وعي حضاري، وسيطر ما هو وعظي وفقهي وحركي فاقد للأهلية في تصور حياة المجتمعات وطبيعة الفرد ومسار التاريخ، عبر تضخيم واجترار أبدي لفكرة المؤامرة بشكلها التعبوي، وليس بالمنظور التاريخي للصراعات الحضارية، وبمجرد ما انحسر زخم هذا الخطاب.. بدأت تظهر تشوهات متنوعة لجيل هذا الخطاب غير المحصن بثقافة متنوعة ما بين تطرف عنفي أو حالة تشتت قيمي، وعقد نفسية من مخلفات ذلك الخطاب المتواضع في الوعي بالدين والحضارة والمجتمع، وقبله كانت تجربة خطاب تحديثي مر دون مضمون فكري عميق، انشغل بالقصيدة والأدب على حساب مساءلة التراث والتاريخ والفكر والخطاب، وكانت الحصيلة متشابهة، ويعود الخطاب اليوم التعبوي مرة أخرى بصورة متشابهة، عبر الأدوات نفسها بصناعة خصم يسهل الطقطقة عليه واستعراض العضلات اللفظية ضده، ونترك مساءلة المؤثرات الحقيقية ودورها في التغيير ومساحته.



مشكلة هذا الخلل أنه ليس مجرد معلومات أرشيفية خاطئة، تصحح بما يناقضها، وإنما وعي متأصل لا يريد أن يتجاوز هدفه النفعي التعبوي الموقت عبر معالجات وأفكار مشوهة عن الحياة والقيم والمجتمعات، فيبالغ بعضهم بإعطاء مؤامرات التغريب قدرات تفوق حقيقتها، وكأن سبب ما يحدث من تحول اجتماعي متسارع في جانب معين مقالة هنا، وتغريدة هناك، ويهمش دور تطورات تقنية الاتصال، وضرورات الاقتصاد وتغير نمط المعيشة، ومتطلبات حياة الفرد، ويبالغ آخر بأن التنمية تعطلت بسبب موقف هذا التيار أو خطاب فلان وفلان المنغلق، وهذا التزييف المتبادل يصنع معارك حضارية في الاتجاه الغلط، فقيم المجتمع ليست مهددة من مقالات استفزازية مبعثرة تستعمل كشواهد لصحة العبط الفكري الذي تقدمه بأي اتجاه، وينظر لكل هذه المتغيرات الكونية الضخمة التي هشمت الزمان والمكان وكأنها شيء ثانوي، يمكن مقاومته «بشوية» نصائح وحكم وتعبئة.



مشكلة هذه الخطابات أن ليس لديها تمييز واضح بين نوع المؤثرات وحجمها في كل محطة تاريخية، حيث تختلط في لغتها النقدية للتطوير أو المحافظة.. بين ما هو تأثير إداري رسمي أو اجتماعي أو ديني أو اقتصادي أو تغيرات كونية عامة للبشرية، وحتى نوعية المؤثر ليس ثابتا فقد يضعف في زمن ويقوى في زمن آخر، ففي بعض المحطات التاريخية كانت الممانعة الاجتماعية أقوى من الرؤى الرسمية والأنظمة الإدارية، والتعليمية والخطاب الثقافي والإعلامي، وفي أحيان أخرى يكون المجتمع قطع شوطا كبيرا وتجاوز عمليا هذه الأنظمة وقيودها التي لم تواكب التغير الذي طرأ نتيجة اتصاله بعوالم أخرى عبر وسائل متنوعة، ولهذا يمكن التمييز بين نوع المؤثر ودرجته.. وفقا لكل عقد من السنين ومن يتحمل مسؤولية التقدم أو التأخر في كل منعطف زمني.



وكثيرا ما حاولت عرض نماذج وشواهد عديدة لكسر هذا الجمود والتخلف في تحليل الواقع، حيث اتضح أنه لا توجد قصة واحدة لمجتمعنا لكل شيء يمكن تعميمها، في المواقف الدينية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، فلكل حكاية منحنى خاص لها تتأثر بظرفها التاريخي، ولهذا تكمن الصعوبة في رؤية ما حدث بدون التدقيق في تعرجات الخط الزمني، ويستفيد من ذلك أصحاب الخطاب التعبوي، وقد فشلت حتى القراءات الأجنبية لمجتمعنا التي تحاول أن تكون رصينة، لأن جزءا غير قليل من تفاصيل الصورة لن يحصل عليها بدردشة مضللة في مؤتمر أو زيارة يحتسي فيها كوب الشاي عبر لقاءات فندقية، وهناك عشرات الأمثلة على هذه الأخطاء في رؤية مشهد التغيير والممانعة في السعودية.



[email protected]