القراءة الالكترونية تغزو العالم، وهذا قد يؤثر على مستقبل القراءة، ولهذا السبب فإن مجلة " New Yorker"اهتمت بكيفية تحسين نوعية القراءة.
فبعدما نشرت "ماريان وولف" كتابها: بروست والحبار، والذي يتناول تاريخ تطور الطريقة التي يقرأ بها الدماغ منذ العصور القديمة حتى القرن الـ21 انهالت عليها الرسائل من مئات القراء من خلفيات متنوعة.
أرسل إليها مهندسون معماريون عن طلابهم الذين يعتمدون كليا على المعلومات الرقمية، ولا يبدون أي استعداد للتعامل مع المشكلات التي قد تواجههم على أرض الواقع في مواقع العمل.
كذلك جراحو أعصاب يشعرون بالقلق حيال عقلية قص ولصق البيانات التي يتعامل بها طلابهم، والتي تسبب فقدان الطلاب كثيرا من المعلومات المهمة؛ لفشلهم في الغوص بعمق كاف للدراسة والتعرف على أية حالة.
بالطبع أرسل إليها أيضا معلمو اللغة الإنجليزية الذين يشعرون بأسى بالغ لأن طلابهم لم يعودوا يرغبون في قراءة "هنرى جيمس".
شيئا فشيئا بدأ الأمر يتضح، يبدو أنه كلما انتقلت القراءة من الوسائط الورقية إلى الوسائط الالكترونية، تقل قدرة الطلاب على الفهم.
وخلال السنوات السبع التي كانت تعمل فيها على بحثها تغيرت طريقة القراءة بشكل جذري، ويبدو أن الأمر أكبر من مشكلات أقسام اللغة الإنجليزية والمكتبات، حينها أدركت "وولف" أن الأمر سيتطلب منها أن تبدأ العمل على كتاب آخر.
ما الذي حدث مع هؤلاء الطلاب والمتخصصين؟ هل طريقة العرض الالكترونية هي سبب تلقيهم السطحي للمعلومات؟ أم إن هناك شيئا آخر يحدث؟
بداية التغير
كل شيء يتغير عندما نتحول للقراءة على الانترنت، لأن العمليات الفيسيولوجية المصاحبة للقراءة نفسها تتغير، فنحن لا نقرأ المطبوعات الورقية بالطريقة ذاتها التي نتصفح بها المقالات على الانترنت.
وتشرح "آن مانجن" الأستاذ في المركز القومي لدراسة القراءة الباحثة في جامعة "ستافاجر" بالنرويج أن القراءة عملية تفاعلية بين القارئ والوسيط التكنولوجي، سواء كان حاسوبا شخصيا، أو جهاز قراءة الكترونيا، وأن القراءة تتضمن بعض العوامل التي عادة لا يعترف بها أحد.
البيئة التي نحتاجها أثناء التصفح الالكتروني تختلف عن بيئة القراءة الورقية، ملمس الوسيط الالكتروني يختلف عن ملمس الورق، كذلك طريقة التصفح بالتمرير المستمر للمسح، مقابل قلب الصفحة تلو الأخرى.
الكتاب الورقي تجسد للقراء في شكل مستقل، في مقابل الجهاز الكتروني يحتوي على آلاف الأشياء الأخرى، بالإضافة إلى القدرة على التنقل الكترونيا في لحظات بين روابط كثيرة لمصادر مختلفة.
الشاشة والورق
الشاشة تساعد على القراءة المسحية والمرور السريع، فعندما نبدأ في التمرير نميل للقراءة أسرع وبعمق أقل، بالمقارنة مع التقليب المتتابع للصفحات الورقية للكتاب.
فعلى الانترنت يتفاقم الميل للقراءة السريعة كوسيلة للتعامل مع الكم الهائل من المعلومات، فنحن نعرف أنه يوجد الكثير من المصادر الأخرى، الكثير جدا من الصفحات، الكثير من البدائل لأي مقال أو كتاب أو وثيقة، يجعلنا كل هذا نقرأ بسرعة، رغبة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، وتعويض ما فاتنا.
عندما أجرى "زمنج ليو" الأستاذ في جامعة ولاية "سان خوسيه" بحثه المركز حول القراءة على الانترنت، واستخدام الأجهزة المخصصة للقراءة الالكترونية، وجد أن الكثير من الأشياء قد تغيرت.
على الشاشات الالكترونية، يميل الناس للقراءة المسحية والتصفح السريع، للبحث عن كلمات محددة، مما يجعلهم يقرؤون بطريقة أكثر انتقائية.
على الورق، يميل الناس للتركيز أكثر على اتباع النص.
يختم "ليو" بأن القراءة المسحية أصبحت هي طريقة القراءة الجديدة، وكلما قرأنا أكثر على الانترنت زادت رغبتنا في التحرك للقراءة أسرع، دون التوقف لتأمل أية فكرة.
عالم الانترنت
عالم الانترنت يستنفد طاقتنا بسرعة أكبر من الصفحات الورقية، نشعر بالتعب، بسبب احتياجنا المستمر لتمييز الروابط المفيدة لنا عن غيرها، ومن مقاومة التشتيت الذي نتعرض له على الانترنت باستمرار.
أعيننا نفسها تعاني من الإرهاق، بسبب التغير المستمر الذي تتعرض له من الشاشات، وتغير شكل الصفحات، وتغير الألوان، وهي المشكلات التي انتقلت لأجهزة القراءة الالكترونية أيضا.
"ماري دايسون" اختصاصية علم النفس في جامعة "ريدنج"، درست الطريقة التي ندرك ونتفاعل بها مع طريقة الكتابة والتصميمات على الانترنت، ووجدت أن تخطيط النصوص الالكترونية والورقية له تأثير مهم على تجربة القراءة.
نحن نقرأ بسرعة أكبر عندما تكون الأسطر طويلة، حتى تصل الأسطر إلى طول معين. فإذا أصبحت السطور طويلة جدا يجعلنا هذا ننتقل من نهاية سطر إلى بداية السطر الذي يليه، فنقرأ البداية والنهاية فقط.
تقول "دايسون" إننا نقرأ بكفاءة أكبر عندما يكون النص في عمود واحد، وليس أعمدة أو أقسام متعددة، ويسهم كل من الخط والألوان ومقياس النص في جعل تجربة القراءة أسهل أو أكثر صعوبة.
وهذه العوامل والمتغيرات بالطبع توجد على الورق، وعلى صفحات الانترنت، لكنها توجد على الانترنت بشكل أكبر كثيرا من المطبوعات الورقية.
على الانترنت ستجد نفسك كل دقيقة تنتقل من صفحة إلى صفحة، وكل صفحة تخطيطها مختلف وجديد تماما عن سابقتها، وفي كل مرة تحتاج عيناك والطريقة التي تقرأ بها إلى إعادة تكيف مع الصفحة الجديدة.
ومع كل انتقال تستهلك طاقة عقلية وجسدية، لأن التحول من القراءة الورقية إلى القراءة الالكترونية لا يؤثر فقط على السرعة والطاقة التي نبذلها في القراءة، لكنه قد يأتي أيضا على حساب عملية الفهم والتحليل والتقييم للنصوص التي نقرؤها.
النقلة إلى الورقية
تركز معظم أبحاث "آن مانجن" على تأثير شكل المواد المقروءة، ليس فقط على حركة العين أو طريقة القراءة، لكن أيضا في القدرة على معالجة النصوص بشكل عام.
إحدى فرضياتها الأساسية تقوم على أن الوجود المادي للكتاب؛ وزنه، حجمه، ملمسه، له تأثير مهم على ما هو أكبر من مجرد الحالة العاطفية.
الناس يحبون الكتب الورقية، ليس لأنهم متعلقون بطقس قديم ممتلئ بالحنين، لكن لأن الطبيعة المادية للكتاب لها تداعيات وانعكاسات أعمق على القراءة والفهم.
تذكر "مانجن" أنها تسمع الناس يقولون إنهم يشعرون كأنهم لم يقرؤوا شيئا، ذلك إذا قرؤوا الكتاب على جهاز الكتروني، وإنها تكون تجربة سريعة الزوال.
تشعر "مانجن" أنه من البدهي أن يكون الوجود المادي للكتاب مهما في تجارب القراءة التي تحتاج فيها للشعور أنك تقف على أسس ثابتة، فالنص الذي تقرؤه على الكمبيوتر ليس له ببساطة مثل هذا الوجود المادي الواضح.
في بحث جديد أجرته مع زملائها وجدت "مانجن"، بعد سؤال القراء عن التسلسل الزمني لقصة بسيطة تم إعطاؤها لهم، أن القراء الذين قرؤوها مطبوعة كان ترتيبهم للأحداث أكثر صحة من القراء الذين قرؤوها على جهاز القراءة الالكترونية "الكيندل".
وهذا على الرغم من بساطة الحبكة والأحداث غير المعقدة، وأن "الكيندل" يستخدم تقنية الحبر الالكتروني الذي يحاكي شكل أوراق الكتب المطبوعة، لكن الوجود المادي المميز للكتب مهم لعملية الفهم.
بينما اهتمام "وولف" ذهب لأبعد من مجرد الفهم البسيط تخاف من أثر القراءة الالكترونية السلبي على ما تسميه القراءة العميقة، فالقراءة العميقة ليست هي القراءة التي نبحث بها عن الأخبار والمعلومات، أو التي نحاول بها أن نعرف خلاصة موضوع ما.
القراءة العميقة هي عملية الفهم المتطور والمعقد والمتنامي، كما تقول عنها "وولف" والتي يفتقدها المعماريون والأطباء الشباب.
القراءة هي جسر الفكر والاستبصار، وترى "وولف" أن هذه العملية تحديدا في خطر.
إذن، ما الذي حدث للطريقة التي يقرأ بها الشباب؟ ما الذي حدث لقدرتنا على تشكيل فهم متكامل عن شيء ما؟ هل لدينا وقت قليل لذلك لا يسمح لنا بممارسة القراءة العميقة؟ هل ستضمر القراءة العميقة بسبب الطريقة التي نقرأ بها؟
تشير "وولف" إلى كون القراءة الالكترونية تتطلب قدرا أكبر من ضبط النفس، والتحكم في الذات، بسبب المشتتات المتعددة التي تظهر لك أثناء القراءة.
في الكتاب المطبوع لن تحتاج لضبط النفس بالمعدل نفسه الذي سوف تحتاجه كي تستمر في القراءة إذا كنت تقرأ كتابا الكترونيا، لكن دورة مراقبة الذات وضبطها تتكرر مرارا أثناء القراءة الالكترونية.
إذا كنت ممن يجيدون مراقبة وضبط ذواتهم لن يكون لديك مشكلة.
أما إذا كنت قليل الانتباه وسريع التشتت، ففي كل مرة ستضغط فيها على رابط آخر أثناء قراءة الكتاب ستكون وكأنك تنشئ نسخة أخرى من الكتاب، وإذا تعرضت لسؤال يختبر مدى فهمك للكتاب ستشعر أنك كنت تقرأ كتابا آخر.
وترى "وولف" أن تراجع القراءة العميقة قد لا يكون بسبب ضمور مهارات القراءة، بقدر ما هو بسبب حاجتنا لتطوير مهارات من نوع مختلف تماما، مثل تدريب النفس على تركيز الانتباه.
من المثير للاهتمام أن الدراسات وجدت أن الأشخاص الذين يلعبون على الانترنت هم قراء أفضل الكترونيا؛ فاللعب يحتاج إلى تركيز الانتباه، ولذلك فهم يقرؤون أيضا بانتباه على الوسائط الالكترونية.
في دراسة أخرى تمت مقارنة فهم الطلاب لنص قصير على الورق، وعلى الأجهزة الالكترونية، وجدت الدراسة أن الطلاب كانت نتائجهم في الفهم متقاربة عندما تم تحديد وقت معين للقراءة، ولكن أداءهم انحدر عندما كان عليهم ضبط الوقت بأنفسهم.
اقترح الباحثون أن المشكلة لا تكمن في الوسائط الرقمية، بقدر ما هي مشكلتنا نحن في معرفة ذواتنا والقدرة على ضبط أنفسنا، فنحن دائما لدينا تصور أن القراءة الالكترونية حتما لن تتطلب الوقت نفسه الذي تحتاجه القراءة الورقية.
"باتريشيا جرينفيلد" وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا العام الماضي وجدوا أن ممارسة مهام متعددة أثناء القراءة على الكمبيوتر أو الأجهزة اللوحية تبطئ عملية القراءة، لكنها لا تؤثر على فهمهم للنصوص.
المشكلة تظهر عند كتابة التقارير التي يجمعون فيها قراءاتهم، حيث وجد الفريق أنه عند قراءة النص الأصلي الكترونيا أو رقميا مع عدم وجود اتصال بالانترنت تكون النتيجة النهائية أفضل من نظيرتها في وجود الانترنت.
كتابة وتسجيل الملاحظات أثناء القراءة تقلل أيضا من النتيجة السلبية التي يسببها الانترنت.
إذن ليست الشاشة هي التي تهدم عملية القراءة العميقة، إنه إغراء المهام المتعددة على الانترنت، وفشلنا في تخفيف تأثيرها بشكل صحيح.
في الحقيقة، هناك بعض الدراسات القديمة التي تؤكد أنه لا يوجد فرق بين القراءة الورقية والقراءة الالكترونية، أو أي شكل من أشكال القراءة، لكن هذه الدراسات أجريت بدون اتصال الأجهزة بالانترنت.
"وولف" متفائلة أنه يمكننا تعلم ممارسة القراءة الالكترونية بالعمق نفسه الذي نقرأ به الكتب الورقية، إذا أخذنا في الاعتبار بعض الملاحظات المهمة.
في دراسة جديدة ساعد إدخال عنصر الشرح التفاعلي في تحسين الفهم واستراتيجية القراءة لمجموعة من الطلاب في الصف الخامس.
وقد تبين أنهم تمكنوا من القراءة بعمق بمجرد أن تعلموا كيف يمكنهم فعل ذلك، تعمل "وولف" الآن على تطوير تطبيق لتعليم الطلاب مهارات القراءة العميقة.
على الرغم من كل التدريبات التي تلقتها "وولف" في القراءة العميقة وجدت أنها تحتاج لمساعدة خارجية كي تكمل كتابها، وذلك لكي تواجه التشتيت اللا متناهي للعالم الرقمي.
فقد ذهبت للاستقرار في قرية صغيرة في فرنسا، لديها استقبال ضعيف لشبكات المحمول، ولا يوجد في القرية اتصال قوي بالانترنت، هي لا تعود للوراء، إنها فقط تحاول التقليل من تأثير التشتيت، والتكيف مع العالم الجديد.
فبعدما نشرت "ماريان وولف" كتابها: بروست والحبار، والذي يتناول تاريخ تطور الطريقة التي يقرأ بها الدماغ منذ العصور القديمة حتى القرن الـ21 انهالت عليها الرسائل من مئات القراء من خلفيات متنوعة.
أرسل إليها مهندسون معماريون عن طلابهم الذين يعتمدون كليا على المعلومات الرقمية، ولا يبدون أي استعداد للتعامل مع المشكلات التي قد تواجههم على أرض الواقع في مواقع العمل.
كذلك جراحو أعصاب يشعرون بالقلق حيال عقلية قص ولصق البيانات التي يتعامل بها طلابهم، والتي تسبب فقدان الطلاب كثيرا من المعلومات المهمة؛ لفشلهم في الغوص بعمق كاف للدراسة والتعرف على أية حالة.
بالطبع أرسل إليها أيضا معلمو اللغة الإنجليزية الذين يشعرون بأسى بالغ لأن طلابهم لم يعودوا يرغبون في قراءة "هنرى جيمس".
شيئا فشيئا بدأ الأمر يتضح، يبدو أنه كلما انتقلت القراءة من الوسائط الورقية إلى الوسائط الالكترونية، تقل قدرة الطلاب على الفهم.
وخلال السنوات السبع التي كانت تعمل فيها على بحثها تغيرت طريقة القراءة بشكل جذري، ويبدو أن الأمر أكبر من مشكلات أقسام اللغة الإنجليزية والمكتبات، حينها أدركت "وولف" أن الأمر سيتطلب منها أن تبدأ العمل على كتاب آخر.
ما الذي حدث مع هؤلاء الطلاب والمتخصصين؟ هل طريقة العرض الالكترونية هي سبب تلقيهم السطحي للمعلومات؟ أم إن هناك شيئا آخر يحدث؟
بداية التغير
كل شيء يتغير عندما نتحول للقراءة على الانترنت، لأن العمليات الفيسيولوجية المصاحبة للقراءة نفسها تتغير، فنحن لا نقرأ المطبوعات الورقية بالطريقة ذاتها التي نتصفح بها المقالات على الانترنت.
وتشرح "آن مانجن" الأستاذ في المركز القومي لدراسة القراءة الباحثة في جامعة "ستافاجر" بالنرويج أن القراءة عملية تفاعلية بين القارئ والوسيط التكنولوجي، سواء كان حاسوبا شخصيا، أو جهاز قراءة الكترونيا، وأن القراءة تتضمن بعض العوامل التي عادة لا يعترف بها أحد.
البيئة التي نحتاجها أثناء التصفح الالكتروني تختلف عن بيئة القراءة الورقية، ملمس الوسيط الالكتروني يختلف عن ملمس الورق، كذلك طريقة التصفح بالتمرير المستمر للمسح، مقابل قلب الصفحة تلو الأخرى.
الكتاب الورقي تجسد للقراء في شكل مستقل، في مقابل الجهاز الكتروني يحتوي على آلاف الأشياء الأخرى، بالإضافة إلى القدرة على التنقل الكترونيا في لحظات بين روابط كثيرة لمصادر مختلفة.
الشاشة والورق
الشاشة تساعد على القراءة المسحية والمرور السريع، فعندما نبدأ في التمرير نميل للقراءة أسرع وبعمق أقل، بالمقارنة مع التقليب المتتابع للصفحات الورقية للكتاب.
فعلى الانترنت يتفاقم الميل للقراءة السريعة كوسيلة للتعامل مع الكم الهائل من المعلومات، فنحن نعرف أنه يوجد الكثير من المصادر الأخرى، الكثير جدا من الصفحات، الكثير من البدائل لأي مقال أو كتاب أو وثيقة، يجعلنا كل هذا نقرأ بسرعة، رغبة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، وتعويض ما فاتنا.
عندما أجرى "زمنج ليو" الأستاذ في جامعة ولاية "سان خوسيه" بحثه المركز حول القراءة على الانترنت، واستخدام الأجهزة المخصصة للقراءة الالكترونية، وجد أن الكثير من الأشياء قد تغيرت.
على الشاشات الالكترونية، يميل الناس للقراءة المسحية والتصفح السريع، للبحث عن كلمات محددة، مما يجعلهم يقرؤون بطريقة أكثر انتقائية.
على الورق، يميل الناس للتركيز أكثر على اتباع النص.
يختم "ليو" بأن القراءة المسحية أصبحت هي طريقة القراءة الجديدة، وكلما قرأنا أكثر على الانترنت زادت رغبتنا في التحرك للقراءة أسرع، دون التوقف لتأمل أية فكرة.
عالم الانترنت
عالم الانترنت يستنفد طاقتنا بسرعة أكبر من الصفحات الورقية، نشعر بالتعب، بسبب احتياجنا المستمر لتمييز الروابط المفيدة لنا عن غيرها، ومن مقاومة التشتيت الذي نتعرض له على الانترنت باستمرار.
أعيننا نفسها تعاني من الإرهاق، بسبب التغير المستمر الذي تتعرض له من الشاشات، وتغير شكل الصفحات، وتغير الألوان، وهي المشكلات التي انتقلت لأجهزة القراءة الالكترونية أيضا.
"ماري دايسون" اختصاصية علم النفس في جامعة "ريدنج"، درست الطريقة التي ندرك ونتفاعل بها مع طريقة الكتابة والتصميمات على الانترنت، ووجدت أن تخطيط النصوص الالكترونية والورقية له تأثير مهم على تجربة القراءة.
نحن نقرأ بسرعة أكبر عندما تكون الأسطر طويلة، حتى تصل الأسطر إلى طول معين. فإذا أصبحت السطور طويلة جدا يجعلنا هذا ننتقل من نهاية سطر إلى بداية السطر الذي يليه، فنقرأ البداية والنهاية فقط.
تقول "دايسون" إننا نقرأ بكفاءة أكبر عندما يكون النص في عمود واحد، وليس أعمدة أو أقسام متعددة، ويسهم كل من الخط والألوان ومقياس النص في جعل تجربة القراءة أسهل أو أكثر صعوبة.
وهذه العوامل والمتغيرات بالطبع توجد على الورق، وعلى صفحات الانترنت، لكنها توجد على الانترنت بشكل أكبر كثيرا من المطبوعات الورقية.
على الانترنت ستجد نفسك كل دقيقة تنتقل من صفحة إلى صفحة، وكل صفحة تخطيطها مختلف وجديد تماما عن سابقتها، وفي كل مرة تحتاج عيناك والطريقة التي تقرأ بها إلى إعادة تكيف مع الصفحة الجديدة.
ومع كل انتقال تستهلك طاقة عقلية وجسدية، لأن التحول من القراءة الورقية إلى القراءة الالكترونية لا يؤثر فقط على السرعة والطاقة التي نبذلها في القراءة، لكنه قد يأتي أيضا على حساب عملية الفهم والتحليل والتقييم للنصوص التي نقرؤها.
النقلة إلى الورقية
تركز معظم أبحاث "آن مانجن" على تأثير شكل المواد المقروءة، ليس فقط على حركة العين أو طريقة القراءة، لكن أيضا في القدرة على معالجة النصوص بشكل عام.
إحدى فرضياتها الأساسية تقوم على أن الوجود المادي للكتاب؛ وزنه، حجمه، ملمسه، له تأثير مهم على ما هو أكبر من مجرد الحالة العاطفية.
الناس يحبون الكتب الورقية، ليس لأنهم متعلقون بطقس قديم ممتلئ بالحنين، لكن لأن الطبيعة المادية للكتاب لها تداعيات وانعكاسات أعمق على القراءة والفهم.
تذكر "مانجن" أنها تسمع الناس يقولون إنهم يشعرون كأنهم لم يقرؤوا شيئا، ذلك إذا قرؤوا الكتاب على جهاز الكتروني، وإنها تكون تجربة سريعة الزوال.
تشعر "مانجن" أنه من البدهي أن يكون الوجود المادي للكتاب مهما في تجارب القراءة التي تحتاج فيها للشعور أنك تقف على أسس ثابتة، فالنص الذي تقرؤه على الكمبيوتر ليس له ببساطة مثل هذا الوجود المادي الواضح.
في بحث جديد أجرته مع زملائها وجدت "مانجن"، بعد سؤال القراء عن التسلسل الزمني لقصة بسيطة تم إعطاؤها لهم، أن القراء الذين قرؤوها مطبوعة كان ترتيبهم للأحداث أكثر صحة من القراء الذين قرؤوها على جهاز القراءة الالكترونية "الكيندل".
وهذا على الرغم من بساطة الحبكة والأحداث غير المعقدة، وأن "الكيندل" يستخدم تقنية الحبر الالكتروني الذي يحاكي شكل أوراق الكتب المطبوعة، لكن الوجود المادي المميز للكتب مهم لعملية الفهم.
بينما اهتمام "وولف" ذهب لأبعد من مجرد الفهم البسيط تخاف من أثر القراءة الالكترونية السلبي على ما تسميه القراءة العميقة، فالقراءة العميقة ليست هي القراءة التي نبحث بها عن الأخبار والمعلومات، أو التي نحاول بها أن نعرف خلاصة موضوع ما.
القراءة العميقة هي عملية الفهم المتطور والمعقد والمتنامي، كما تقول عنها "وولف" والتي يفتقدها المعماريون والأطباء الشباب.
القراءة هي جسر الفكر والاستبصار، وترى "وولف" أن هذه العملية تحديدا في خطر.
إذن، ما الذي حدث للطريقة التي يقرأ بها الشباب؟ ما الذي حدث لقدرتنا على تشكيل فهم متكامل عن شيء ما؟ هل لدينا وقت قليل لذلك لا يسمح لنا بممارسة القراءة العميقة؟ هل ستضمر القراءة العميقة بسبب الطريقة التي نقرأ بها؟
تشير "وولف" إلى كون القراءة الالكترونية تتطلب قدرا أكبر من ضبط النفس، والتحكم في الذات، بسبب المشتتات المتعددة التي تظهر لك أثناء القراءة.
في الكتاب المطبوع لن تحتاج لضبط النفس بالمعدل نفسه الذي سوف تحتاجه كي تستمر في القراءة إذا كنت تقرأ كتابا الكترونيا، لكن دورة مراقبة الذات وضبطها تتكرر مرارا أثناء القراءة الالكترونية.
إذا كنت ممن يجيدون مراقبة وضبط ذواتهم لن يكون لديك مشكلة.
أما إذا كنت قليل الانتباه وسريع التشتت، ففي كل مرة ستضغط فيها على رابط آخر أثناء قراءة الكتاب ستكون وكأنك تنشئ نسخة أخرى من الكتاب، وإذا تعرضت لسؤال يختبر مدى فهمك للكتاب ستشعر أنك كنت تقرأ كتابا آخر.
وترى "وولف" أن تراجع القراءة العميقة قد لا يكون بسبب ضمور مهارات القراءة، بقدر ما هو بسبب حاجتنا لتطوير مهارات من نوع مختلف تماما، مثل تدريب النفس على تركيز الانتباه.
من المثير للاهتمام أن الدراسات وجدت أن الأشخاص الذين يلعبون على الانترنت هم قراء أفضل الكترونيا؛ فاللعب يحتاج إلى تركيز الانتباه، ولذلك فهم يقرؤون أيضا بانتباه على الوسائط الالكترونية.
في دراسة أخرى تمت مقارنة فهم الطلاب لنص قصير على الورق، وعلى الأجهزة الالكترونية، وجدت الدراسة أن الطلاب كانت نتائجهم في الفهم متقاربة عندما تم تحديد وقت معين للقراءة، ولكن أداءهم انحدر عندما كان عليهم ضبط الوقت بأنفسهم.
اقترح الباحثون أن المشكلة لا تكمن في الوسائط الرقمية، بقدر ما هي مشكلتنا نحن في معرفة ذواتنا والقدرة على ضبط أنفسنا، فنحن دائما لدينا تصور أن القراءة الالكترونية حتما لن تتطلب الوقت نفسه الذي تحتاجه القراءة الورقية.
"باتريشيا جرينفيلد" وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا العام الماضي وجدوا أن ممارسة مهام متعددة أثناء القراءة على الكمبيوتر أو الأجهزة اللوحية تبطئ عملية القراءة، لكنها لا تؤثر على فهمهم للنصوص.
المشكلة تظهر عند كتابة التقارير التي يجمعون فيها قراءاتهم، حيث وجد الفريق أنه عند قراءة النص الأصلي الكترونيا أو رقميا مع عدم وجود اتصال بالانترنت تكون النتيجة النهائية أفضل من نظيرتها في وجود الانترنت.
كتابة وتسجيل الملاحظات أثناء القراءة تقلل أيضا من النتيجة السلبية التي يسببها الانترنت.
إذن ليست الشاشة هي التي تهدم عملية القراءة العميقة، إنه إغراء المهام المتعددة على الانترنت، وفشلنا في تخفيف تأثيرها بشكل صحيح.
في الحقيقة، هناك بعض الدراسات القديمة التي تؤكد أنه لا يوجد فرق بين القراءة الورقية والقراءة الالكترونية، أو أي شكل من أشكال القراءة، لكن هذه الدراسات أجريت بدون اتصال الأجهزة بالانترنت.
"وولف" متفائلة أنه يمكننا تعلم ممارسة القراءة الالكترونية بالعمق نفسه الذي نقرأ به الكتب الورقية، إذا أخذنا في الاعتبار بعض الملاحظات المهمة.
في دراسة جديدة ساعد إدخال عنصر الشرح التفاعلي في تحسين الفهم واستراتيجية القراءة لمجموعة من الطلاب في الصف الخامس.
وقد تبين أنهم تمكنوا من القراءة بعمق بمجرد أن تعلموا كيف يمكنهم فعل ذلك، تعمل "وولف" الآن على تطوير تطبيق لتعليم الطلاب مهارات القراءة العميقة.
على الرغم من كل التدريبات التي تلقتها "وولف" في القراءة العميقة وجدت أنها تحتاج لمساعدة خارجية كي تكمل كتابها، وذلك لكي تواجه التشتيت اللا متناهي للعالم الرقمي.
فقد ذهبت للاستقرار في قرية صغيرة في فرنسا، لديها استقبال ضعيف لشبكات المحمول، ولا يوجد في القرية اتصال قوي بالانترنت، هي لا تعود للوراء، إنها فقط تحاول التقليل من تأثير التشتيت، والتكيف مع العالم الجديد.