شاهر النهاري

أبعده الله عن أحبابكم

الثلاثاء - 31 يناير 2017

Tue - 31 Jan 2017

كانت الأم حريصة على تصوير الفقرة التي ستشارك فيها ابنتها ذات السنوات الخمس في المسرح المدرسي، الذي زرع بالزهور، وبالأعين الصغيرة، الخجلى، وبالجدائل، التي تحكي تموجاتها عن أمل بحياة تتفتح فيها الأبواب الوردية، على أبعاد سماء صافية زرقاء.



وتنقل الطفلة نظراتها بين الصفوف علها ترى وجه أمها، التي دربتها وشجعتها، وأعادت معها تقمص الدور مرات ومرات، غير أن وجه الأم لم يظهر لها، ودمعة الطفلة لم تطق صبرا، فتنفجر بالبكاء، وسط دهشة زميلاتها، فقد كانت من أذكاهن، وأكثرهن قدرة وجرأة، فما الذي ألم بها!



تحملها المدرسة، وتضعها في حضن أمها خلف المسرح، وتدمع عين الأم، وهي ترى ابنتها مبتئسة. لا يهم الأنشودة، ولا يهم الفستان، وكل هم الأم أن تعرف سبب الدموع، التي لم تعهدها.



استمرت الصغيرة، تصرخ وتتلوى، وتمسك بخاصرتها، فتكتشف الأم أن بطن ابنتها ليس كسابق عهده!

وتنطلق بها إلى أقرب مستشفى، والكل حائر بحالتها، ويحيلها إلى مكان أكثر تخصصا، حتى تبينت معالم الكارثة، فطحال الصغيرة منتفخ، وهي تعاني من سرطان في الدم!



مأساة، وأي مأساة حلت بالأسرة الصغيرة، فما الذي ينتظرهم، في معاناة تستمر من بدايات الأمل والتشكيك والتكذيب والإنكار، ومرورا بتقبل القدر، ثم الخضوع لمسار مؤلم عنيف على رقة سنواتها الخمس، من حقن وفحوصات ومعالجات تجعل قلب الأم ينفطر مرات ومرات، وهي تحاول إقناع الصغيرة بأنه مجرد ظرف طارئ، وينتهي، وتحبس الأم دمعاتها أمامها، ثم تنهار قواها أمام الآخرين، وكأنها تخرج من حلم مزعج، لتجد نفسها في خضم كابوس أسود لعين مرير.

رباه رحماك، فكيف انقلبت حياتهم لمأساة حقيقية، تجعل البيت معسكرا للشقاء، ومعقلا للدموع، والألم، ومواجهة عقبات من التحويرات النفسية، لسكان البيت، ولكل من يدنو من أبواب ونوافذ حياتهم البائسة.



اشتعلت الأنفس بالبيت غضبا، وأمست الهجعة نادرة، فالصغيرة كانت شعلة الحب، وها هي اليوم تغدو مصدر الشفقة والألم، والحسرة، والعجز. ود الجميع لو يفتدونها، أو يشاركونها في جزء من معاناتها، ولكن الأماني شيء، والحقائق الجامدة شيء آخر.



تبدل كل شيء في كنه المنزل وأهله، فالنوم مختلف، والأكل مختلف، ومسار الحياة اليومية أصيب بالخبل، فلا يستمر شيء على قديم عهده.

شهور طويلة، وكلام عن الحسد، ونصائح، وأدوية شعبية، وسوائل مقدسة، ومشعوذون، والأم تحاول ألا تفقد أعصابها، وألا تجرح المتعاطفين المشاركين بمختلف ثقافاتهم.



علاج كيماوي، وعلاج بالأشعة قشر بشرة الصغيرة، وأذبل عينيها الغائرتين فكأنها في خريف العمر.

وكان لا بد من حلاقة ما تبقى فوق رأس الطفلة الغضة من شعر متهالك، ومن تشجيع، فتأخذ الأم المقص، وتهم بقص شعرها، لتقنع الصغيرة بأن الشعر يذهب ويعود، ولكن الصغيرة تمسك المقص بوهن يدها الصغيرة وترفض فعل أمها، وتدمع وهي تترجاها أن تقص شعرها هي، وأن تترك جدائلها، التي تعشقها، ولا تعرف النوم، إلا بعد أن تتنفس حنان رائحتها.



عام ونصف، والحال مزر، قبل أن تتحسن الحالة، بدعوات الجميع، وبإيمانهم بأن المرض السرطاني يحتاج إلى فريق دعم ومحبة وتضحية يتكون من عموم المحيطين بالمريض، ليتمكن من تخطي التجربة الأليمة، وفتح نوافذ الأمل، والتعبئة، لهزيمة السرطان.



[email protected]