إن وجد رجل من الشرق الأوسط عاش منذ 2,500 عام نفسه فجأة في مدينته نفسها لكن في عام 2015، بالطبع ستصدمه الاختراعات الحديثة، لكن صدمته لن تقتصر على مظاهر الحياة الحديثة والآلية، بل سيصدم أيضا من كون اللغة العربية هي اللغة الرسمية لأكثر من 20 دولة في المنطقة، وسيبدو الأمر مفاجئا جدا بالنسبة له.
ففي عهد رجلنا المسافر في الزمن كانت اللغة العربية مجرد لغة غريبة تتحدث بها مجموعة من البدو، واحتمالية أن يكون من المتحدثين بالعربية ضئيلة جدا، فقد كان هناك عدد من اللغات الأخرى في زمنه الأصلي، وربما تكون إحداها هي لغته الأم، وفكرته عن اللغة المناسبة لأن تكون لغة رسمية هي اللغة الآرامية، والتي كانت مهيمنة على حدود ما يدركه من العالم بين عامي 600 و200 قبل الميلاد.
اللغة الآرامية هي اللغة التي تستخدم في التعامل المشترك بين عدد من الدول كاليونان ومصر وبلاد ما بين النهرين وفارس وحتى الهند، أما الآن فهذه اللغة نادرا ما يتحدث بها أحد في أي مكان، وعلى الأرجح فإنها ستنقرض خلال القرن المقبل.
عدد الشبان الصغار الذين يتعلمون الآرامية كلغة أم في تناقص، والآن لا يتحدث بالآرامية إلا نحو نصف مليون شخص فقط، مقارنة بلغات أخرى محدودة العدد أيضا كالألبانية التي يتحدث بها 5.5 ملايين شخص، وذلك حسبما جاء في "أتلانتك".
كيف تتحول لغة ما من الهيمنة التامة إلى مقاربة الزوال؟
أسباب انقراض اللغة:
1 السبب الأول لذلك يقع في فكرة التفتت الجغرافي، فاليوم لا يوجد دولة تدعى "أراميا" حيث تكون اللغة الآرامية هي لغتها الرسمية، بل يتحدث بها فقط في مجتمعات صغيرة ومنعزلة متفرقة وبعيدة في بلدان عدة، منها إيران وتركيا والعراق وسوريا وأرمينيا وجورجيا.
هناك أيضا بعض المجتمعات المهاجرة التي يوجد بها بعض متحدثي الآرامية في شيكاجو، وباراموسوتينيك بنيو جيرسي.
2 مؤشر آخر مهم على اضمحلال اللغة، وهو تعدد الأسماء التي تطلق عليها هذه الأيام مع عدم وجود اهتمام سياسي بمتابعة ذلك، في عدد من المصادر التاريخية يشار إليها باسم اللغة "الكلدانية" وذلك تبعا للقب إحدى السلالات الحاكمة التي كانت تتحدث بالآرامية، والتي حكمت بابل حينما كانت مركز الحضارة ما بين النهرين بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد.
وذلك لأن اللهجة الآرامية السورية لا تزال محفوظة جيدا كتابة ولا تزال تستخدم في الطقوس المسيحية في الشرق الأوسط وتركيا وحتى الهند، بالإضافة لإمكانية سماع اللغة السريانية هناك في كثير من الأحيان، بينما يطلق بعض المتحدثين المعاصرين على الآرامية اسم الآشورية، ويطلق البعض الآخر عليها اسم المندائية.
على الرغم من كون اللغة الآرامية مفتتة الآن لكنها كانت بمثابة اللغة الإنجليزية في عصرها، فكانت لغة عابرة للحدود وتعد لغة التخاطب الأولى التي تجمع بين الناس في عدد كبير من المقاطعات والبلاد المختلفة في مناطق شاسعة، فكانت بمثابة المفتاح للتواصل خارج القرية الواحدة وعلامة على الرقي لدى الكثيرين.
الآراميون ينتسبون طبقا للكتابات الإنجيلية إلى حفيد النبي نوح الذي يدعى آرام، وقد بدؤوا كمجموعة بدوية صغيرة، لكنهم كانوا دائمي الترحال، وبحلول القرن الـ11 قبل الميلاد استطاعوا الوصول إلى حكم مناطق شاسعة في بلاد ما بين النهرين، وشملت سيطرتهم مناطق عدة في العراق وسوريا وتركيا حاليا، ومن ضمن هذه المناطق كانت مدينة بابل نفسها لفترة قصيرة من الزمن.
نتيجة لهذا التوسع فقط الآرامية لم تكن لتتعدى كونها لغة عادية انتشرت وسادت لفترة وجيزة، ثم اختفت وانزوت في لعبة الكراسي الموسيقية السياسية اللانهائية في الشرق الأوسط القديم، ذلك وسط عدد من اللغات الأخرى الموجودة في حينها.
سيطر الآراميون على بابل لفترة وجيزة عام 911 قبل الميلاد، ثم أزاحهم الآشوريون عن السلطة وكانوا يتحدثون لغة تدعى الأكادية، لكن بعد ذلك ساعد الآشوريون بغير قصد في انتشار وهيمنة اللغة الآرامية على حساب لغتهم.
انتشار الأرمنية في زمن الآشوريين
حتى حين أبعد الآشوريون متحدثي الآرامية بعيدا عن العاصمة إلى مصر ومناطق أخرى عدة، ظن الآشوريون أنهم بذلك يطهرون مناطق نفوذهم من كل من لديه القدرة على منافستهم، لكن ذلك كان بمثابة النفخ في حبوب اللقاح الضعيفة حين ظنوا أنهم بهذه الطريقة يدمرون اللغة، لكنهم كانوا في الحقيقة يساعدونها على الانتشار.
ووفقا لذلك انتشرت اللغة ووطدت نفسها بعد ذلك كلغة للسلطة وللتواصل المشترك بين مختلف الثقافات في بابل وما حولها، كما هو الحال مع أشياء أخرى كثيرة، العادات القديمة لا يمكن التخلص منها بسهولة.
سرعان ما كان الناس يتعلمون الآرامية من المهد، ولم تعد الآرامية في العاصمة فقط بل انتشرت في كل الهلال الخصيب؛ ممتدة من فارس مرورا بشمال الجزيرة العربية وحتى مصر، حتى إن الآشوريين وجدوا أن من الأسهل تبني الآرامية كلغة رسمية بدلا من فرض الأكادية.
هذا مشابه تماما لما حدث في القرن التاسع بأوروبا عندما غزت قبائل الفايكنج الإسكندنافية إنجلترا، وتعلموا الإنجليزية بدلا من فرض اللغة النوردية القديمة الخاصة بهم، ولهذا السبب كان المسيح وباقي اليهود يتحدثون الآرامية، ولهذا أيضا كان هناك عدد من الأجزاء في الإنجيل العبري مكتوبة بالآرامية.
اللغتان في الحقيقة من شجرة اللغات السامية نفسها، ولكن على الرغم من هذا تحول كتاب دانيال إلى اللغة الآرامية لخمسة فصول كاملة بسبب مخاطبته للكلدانيين غير مبرر ويشبه كما لو أن "سرفانتس" حول روايته دون كيخوته للإيطالية في فصل النبيل "فيفلورنسا".
لقد كانت الآرامية هي اللغة المهيمنة لدرجة أن مؤلفي الإنجيل افترضوا أنها ستكون معروفة لكل المخاطبين، أما العبرية فكانت لغة محلية بالنسبة لهم.
انتشرت الآرامية في مساحات كثيرة حتى في الأماكن التي لم يتحدث بها أحد، وذلك عن طريق أبجديتها، والتي اعتمدت عليها كل من العبرية والعربية فيما بعد، وفي الوقت الذي فازت فيه الإمبراطورية الفارسية بلعبة الكراسي الموسيقية في بلاد ما بين النهرين، كانت الآرامية منتشرة للغاية لدرجة أنه كان من الطبيعي الإبقاء عليها كلغة الإمبراطورية الرسمية بدلا من استخدام الفارسية.
وبالنسبة للملك داريوس كانت الفارسية تستخدم فقط للعملات والنقوش على المنحوتات الصخرية الرائعة لوجهه، بينما كانت الإدارة اليومية باللغة الآرامية، والتي على الأغلب لم يكن هو نفسه يتحدث بها.
كان يملي الخطاب بالفارسية ويترجمه الكاتب للآرامية، ثم يترجمه كاتب آخر عند وصوله لغايته للغة المحلية المستخدمة، وكان هذا إجراء متبعا مع كل المناطق ذات اللغات المختلفة في كل أنحاء الإمبراطورية.
" وتظهر اللغة الآرامية أن سهولة التحدث باللغة ليس لها أي علاقة بالأسباب الحقيقية لانتشارها وهيمنتها، وذلك على الرغم من الادعاءات التي تقول بأن الإنجليزية ناجحة بسبب السهولة النسبية في تعلم أساسياتها"
الآرامية ليست لغة عادية
كان تعلم الآرامية يحتاج لمهارة حقيقية، ولا أحد يستطيع أن يدعي أنها لغة سهلة التعلم أبدا، وأي شخص يرى أن اللغة العربية صعبة التعلم، أو يفكر في العبرية وأنهم لا يعلمونها حقا في المدارس العبرانية، فسيجد العوائق نفسها في اللغة الآرامية.
بل وأكثر، فالأسماء في الآرامية تأتي بتصريفات مختلفة اعتمادا على حالتها، وتأتي بشكل عادي، أو مضافة لأسماء أخرى، أو تأتي بصيغة التأكيد.
وتظهر اللغة الآرامية أن سهولة التحدث باللغة ليس لها أي علاقة بالأسباب الحقيقية لانتشارها وهيمنتها، وذلك على الرغم من الادعاءات التي تقول بأن الإنجليزية ناجحة بسبب السهولة النسبية في تعلم أساسياتها.
على سبيل المثال: اللغة اليونانية لغة صعبة ومعقدة، لكن بعد انتصار الإسكندر الأكبر على الفرس في القرن الرابع قبل الميلاد، استطاعت اليونانية إزاحة الآرامية وحلت محلها، واستمرت الآرامية في مناطق قليلة مثل يهودا، وعلى الأغلب كانت هي اللغة الأم للمسيح.
مرة أخرى العربية ليست لغة سهلة والروسية كذلك، ويتحدث بهما ملايين من الناس.
على أية حال، كان اليونانيون مصممين على نشر لغتهم أكثر مما فعل الفرس، ثم أتى بعد ذلك الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي، واعتمد على الفور على اللغة العربية في الانتشار باعتبارها وسيلة لنشر الدين، لكن في عصرنا الحالي فإن فكرة أن هناك لغة كانت سائدة في الشرق الأوسط غير العربية تعد مفاجئة للبعض.
"إن سيطرت الصين على العلم فلن تستمر الإنجليزية كما هي الآن"
حتى هذه النقطة، وتبعا لكل ما سبق من المفترض أن تفوق اللغة الإنجليزية من الممكن أن ينتهي بسهولة كما حدث مع الآرامية. لكن في الحقيقة حدوث هذا الأمر مشكوك به. فالإنجليزية ستبقى بقوة ولفترة أطول من أي لغة أخرى في التاريخ، فقد صادف ارتفاع اللغة الإنجليزية ثلاثة أشياء لم يحدث مثلها من قبل في التاريخ، ويمكن لهذه الأشياء إيقاف لعبة الكراسي الموسيقية في هيمنة اللغات، وهي:
1 الطباعة.
2 انتشار التعليم على نطاق واسع غير مسبوق.
3 وسائل الإعلام الحاضرة في كل مكان.
هذه النقاط الثلاث سويا يمكنها حفر اللغة الإنجليزية في اللا وعي الدولي بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وتخلق إحساسا جديدا بما هو طبيعي ومعتاد وعالمي بل ولطيف أيضا، بل وعند البعض يكون الأمر بالإكراه وغير قابل للاستبدال.
على سبيل المثال، إذا حكمت الصين العالم يوما ما، يعتقد أنهم سيستخدمون في ذلك اللغة الإنجليزية كما فعل الملك داريوس مع الآرامية، وكما فعل كوبالي خان في القرن الـ13 الميلادي عندما حكم الصين عبر مترجم رغم تحدثه باللغة المنغولية، فقد أُطيح بالآرامية في وقت كانت فيه اللغة المشتركة أكثر هشاشة مما هي عليه اليوم.
لكن على الأقل كانت لدى الآرامية ربع ساعة من عمر البشرية حظيت فيها بالشهرة والانتشار، بل ربما ما يقارب ساعة أو اثنتين على الأرجح.
ومثلما يحدث اليوم عندما تريد شركة مثل "نايكي" أن تجعل شعارها "just do it" مفهوما للعالم أجمع فتستخدم الإنجليزية.
ففي عهد رجلنا المسافر في الزمن كانت اللغة العربية مجرد لغة غريبة تتحدث بها مجموعة من البدو، واحتمالية أن يكون من المتحدثين بالعربية ضئيلة جدا، فقد كان هناك عدد من اللغات الأخرى في زمنه الأصلي، وربما تكون إحداها هي لغته الأم، وفكرته عن اللغة المناسبة لأن تكون لغة رسمية هي اللغة الآرامية، والتي كانت مهيمنة على حدود ما يدركه من العالم بين عامي 600 و200 قبل الميلاد.
اللغة الآرامية هي اللغة التي تستخدم في التعامل المشترك بين عدد من الدول كاليونان ومصر وبلاد ما بين النهرين وفارس وحتى الهند، أما الآن فهذه اللغة نادرا ما يتحدث بها أحد في أي مكان، وعلى الأرجح فإنها ستنقرض خلال القرن المقبل.
عدد الشبان الصغار الذين يتعلمون الآرامية كلغة أم في تناقص، والآن لا يتحدث بالآرامية إلا نحو نصف مليون شخص فقط، مقارنة بلغات أخرى محدودة العدد أيضا كالألبانية التي يتحدث بها 5.5 ملايين شخص، وذلك حسبما جاء في "أتلانتك".
كيف تتحول لغة ما من الهيمنة التامة إلى مقاربة الزوال؟
أسباب انقراض اللغة:
1 السبب الأول لذلك يقع في فكرة التفتت الجغرافي، فاليوم لا يوجد دولة تدعى "أراميا" حيث تكون اللغة الآرامية هي لغتها الرسمية، بل يتحدث بها فقط في مجتمعات صغيرة ومنعزلة متفرقة وبعيدة في بلدان عدة، منها إيران وتركيا والعراق وسوريا وأرمينيا وجورجيا.
هناك أيضا بعض المجتمعات المهاجرة التي يوجد بها بعض متحدثي الآرامية في شيكاجو، وباراموسوتينيك بنيو جيرسي.
2 مؤشر آخر مهم على اضمحلال اللغة، وهو تعدد الأسماء التي تطلق عليها هذه الأيام مع عدم وجود اهتمام سياسي بمتابعة ذلك، في عدد من المصادر التاريخية يشار إليها باسم اللغة "الكلدانية" وذلك تبعا للقب إحدى السلالات الحاكمة التي كانت تتحدث بالآرامية، والتي حكمت بابل حينما كانت مركز الحضارة ما بين النهرين بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد.
وذلك لأن اللهجة الآرامية السورية لا تزال محفوظة جيدا كتابة ولا تزال تستخدم في الطقوس المسيحية في الشرق الأوسط وتركيا وحتى الهند، بالإضافة لإمكانية سماع اللغة السريانية هناك في كثير من الأحيان، بينما يطلق بعض المتحدثين المعاصرين على الآرامية اسم الآشورية، ويطلق البعض الآخر عليها اسم المندائية.
على الرغم من كون اللغة الآرامية مفتتة الآن لكنها كانت بمثابة اللغة الإنجليزية في عصرها، فكانت لغة عابرة للحدود وتعد لغة التخاطب الأولى التي تجمع بين الناس في عدد كبير من المقاطعات والبلاد المختلفة في مناطق شاسعة، فكانت بمثابة المفتاح للتواصل خارج القرية الواحدة وعلامة على الرقي لدى الكثيرين.
الآراميون ينتسبون طبقا للكتابات الإنجيلية إلى حفيد النبي نوح الذي يدعى آرام، وقد بدؤوا كمجموعة بدوية صغيرة، لكنهم كانوا دائمي الترحال، وبحلول القرن الـ11 قبل الميلاد استطاعوا الوصول إلى حكم مناطق شاسعة في بلاد ما بين النهرين، وشملت سيطرتهم مناطق عدة في العراق وسوريا وتركيا حاليا، ومن ضمن هذه المناطق كانت مدينة بابل نفسها لفترة قصيرة من الزمن.
نتيجة لهذا التوسع فقط الآرامية لم تكن لتتعدى كونها لغة عادية انتشرت وسادت لفترة وجيزة، ثم اختفت وانزوت في لعبة الكراسي الموسيقية السياسية اللانهائية في الشرق الأوسط القديم، ذلك وسط عدد من اللغات الأخرى الموجودة في حينها.
سيطر الآراميون على بابل لفترة وجيزة عام 911 قبل الميلاد، ثم أزاحهم الآشوريون عن السلطة وكانوا يتحدثون لغة تدعى الأكادية، لكن بعد ذلك ساعد الآشوريون بغير قصد في انتشار وهيمنة اللغة الآرامية على حساب لغتهم.
انتشار الأرمنية في زمن الآشوريين
حتى حين أبعد الآشوريون متحدثي الآرامية بعيدا عن العاصمة إلى مصر ومناطق أخرى عدة، ظن الآشوريون أنهم بذلك يطهرون مناطق نفوذهم من كل من لديه القدرة على منافستهم، لكن ذلك كان بمثابة النفخ في حبوب اللقاح الضعيفة حين ظنوا أنهم بهذه الطريقة يدمرون اللغة، لكنهم كانوا في الحقيقة يساعدونها على الانتشار.
ووفقا لذلك انتشرت اللغة ووطدت نفسها بعد ذلك كلغة للسلطة وللتواصل المشترك بين مختلف الثقافات في بابل وما حولها، كما هو الحال مع أشياء أخرى كثيرة، العادات القديمة لا يمكن التخلص منها بسهولة.
سرعان ما كان الناس يتعلمون الآرامية من المهد، ولم تعد الآرامية في العاصمة فقط بل انتشرت في كل الهلال الخصيب؛ ممتدة من فارس مرورا بشمال الجزيرة العربية وحتى مصر، حتى إن الآشوريين وجدوا أن من الأسهل تبني الآرامية كلغة رسمية بدلا من فرض الأكادية.
هذا مشابه تماما لما حدث في القرن التاسع بأوروبا عندما غزت قبائل الفايكنج الإسكندنافية إنجلترا، وتعلموا الإنجليزية بدلا من فرض اللغة النوردية القديمة الخاصة بهم، ولهذا السبب كان المسيح وباقي اليهود يتحدثون الآرامية، ولهذا أيضا كان هناك عدد من الأجزاء في الإنجيل العبري مكتوبة بالآرامية.
اللغتان في الحقيقة من شجرة اللغات السامية نفسها، ولكن على الرغم من هذا تحول كتاب دانيال إلى اللغة الآرامية لخمسة فصول كاملة بسبب مخاطبته للكلدانيين غير مبرر ويشبه كما لو أن "سرفانتس" حول روايته دون كيخوته للإيطالية في فصل النبيل "فيفلورنسا".
لقد كانت الآرامية هي اللغة المهيمنة لدرجة أن مؤلفي الإنجيل افترضوا أنها ستكون معروفة لكل المخاطبين، أما العبرية فكانت لغة محلية بالنسبة لهم.
انتشرت الآرامية في مساحات كثيرة حتى في الأماكن التي لم يتحدث بها أحد، وذلك عن طريق أبجديتها، والتي اعتمدت عليها كل من العبرية والعربية فيما بعد، وفي الوقت الذي فازت فيه الإمبراطورية الفارسية بلعبة الكراسي الموسيقية في بلاد ما بين النهرين، كانت الآرامية منتشرة للغاية لدرجة أنه كان من الطبيعي الإبقاء عليها كلغة الإمبراطورية الرسمية بدلا من استخدام الفارسية.
وبالنسبة للملك داريوس كانت الفارسية تستخدم فقط للعملات والنقوش على المنحوتات الصخرية الرائعة لوجهه، بينما كانت الإدارة اليومية باللغة الآرامية، والتي على الأغلب لم يكن هو نفسه يتحدث بها.
كان يملي الخطاب بالفارسية ويترجمه الكاتب للآرامية، ثم يترجمه كاتب آخر عند وصوله لغايته للغة المحلية المستخدمة، وكان هذا إجراء متبعا مع كل المناطق ذات اللغات المختلفة في كل أنحاء الإمبراطورية.
" وتظهر اللغة الآرامية أن سهولة التحدث باللغة ليس لها أي علاقة بالأسباب الحقيقية لانتشارها وهيمنتها، وذلك على الرغم من الادعاءات التي تقول بأن الإنجليزية ناجحة بسبب السهولة النسبية في تعلم أساسياتها"
الآرامية ليست لغة عادية
كان تعلم الآرامية يحتاج لمهارة حقيقية، ولا أحد يستطيع أن يدعي أنها لغة سهلة التعلم أبدا، وأي شخص يرى أن اللغة العربية صعبة التعلم، أو يفكر في العبرية وأنهم لا يعلمونها حقا في المدارس العبرانية، فسيجد العوائق نفسها في اللغة الآرامية.
بل وأكثر، فالأسماء في الآرامية تأتي بتصريفات مختلفة اعتمادا على حالتها، وتأتي بشكل عادي، أو مضافة لأسماء أخرى، أو تأتي بصيغة التأكيد.
وتظهر اللغة الآرامية أن سهولة التحدث باللغة ليس لها أي علاقة بالأسباب الحقيقية لانتشارها وهيمنتها، وذلك على الرغم من الادعاءات التي تقول بأن الإنجليزية ناجحة بسبب السهولة النسبية في تعلم أساسياتها.
على سبيل المثال: اللغة اليونانية لغة صعبة ومعقدة، لكن بعد انتصار الإسكندر الأكبر على الفرس في القرن الرابع قبل الميلاد، استطاعت اليونانية إزاحة الآرامية وحلت محلها، واستمرت الآرامية في مناطق قليلة مثل يهودا، وعلى الأغلب كانت هي اللغة الأم للمسيح.
مرة أخرى العربية ليست لغة سهلة والروسية كذلك، ويتحدث بهما ملايين من الناس.
على أية حال، كان اليونانيون مصممين على نشر لغتهم أكثر مما فعل الفرس، ثم أتى بعد ذلك الإسلام في بداية القرن السابع الميلادي، واعتمد على الفور على اللغة العربية في الانتشار باعتبارها وسيلة لنشر الدين، لكن في عصرنا الحالي فإن فكرة أن هناك لغة كانت سائدة في الشرق الأوسط غير العربية تعد مفاجئة للبعض.
"إن سيطرت الصين على العلم فلن تستمر الإنجليزية كما هي الآن"
حتى هذه النقطة، وتبعا لكل ما سبق من المفترض أن تفوق اللغة الإنجليزية من الممكن أن ينتهي بسهولة كما حدث مع الآرامية. لكن في الحقيقة حدوث هذا الأمر مشكوك به. فالإنجليزية ستبقى بقوة ولفترة أطول من أي لغة أخرى في التاريخ، فقد صادف ارتفاع اللغة الإنجليزية ثلاثة أشياء لم يحدث مثلها من قبل في التاريخ، ويمكن لهذه الأشياء إيقاف لعبة الكراسي الموسيقية في هيمنة اللغات، وهي:
1 الطباعة.
2 انتشار التعليم على نطاق واسع غير مسبوق.
3 وسائل الإعلام الحاضرة في كل مكان.
هذه النقاط الثلاث سويا يمكنها حفر اللغة الإنجليزية في اللا وعي الدولي بطريقة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وتخلق إحساسا جديدا بما هو طبيعي ومعتاد وعالمي بل ولطيف أيضا، بل وعند البعض يكون الأمر بالإكراه وغير قابل للاستبدال.
على سبيل المثال، إذا حكمت الصين العالم يوما ما، يعتقد أنهم سيستخدمون في ذلك اللغة الإنجليزية كما فعل الملك داريوس مع الآرامية، وكما فعل كوبالي خان في القرن الـ13 الميلادي عندما حكم الصين عبر مترجم رغم تحدثه باللغة المنغولية، فقد أُطيح بالآرامية في وقت كانت فيه اللغة المشتركة أكثر هشاشة مما هي عليه اليوم.
لكن على الأقل كانت لدى الآرامية ربع ساعة من عمر البشرية حظيت فيها بالشهرة والانتشار، بل ربما ما يقارب ساعة أو اثنتين على الأرجح.
ومثلما يحدث اليوم عندما تريد شركة مثل "نايكي" أن تجعل شعارها "just do it" مفهوما للعالم أجمع فتستخدم الإنجليزية.