فايع آل مشيرة عسيري

تراتيل الفقد..!

الخميس - 12 يناير 2017

Thu - 12 Jan 2017

ثمة رحيل يأخذ منك كل شيء، ويسلبك عقلك وقلبك، يسافر بك نحو انكسارات الروح، وانحسارات الضوء تعزلك في زوايا الذهول والفجيعة.. هناك تبدأ تراتيل الذاكرة في رحلة البحث عن قلب محمد البريدي حيا وميتا في ذكرى رحيله قبل عام من الآن.



زرياب ألمع..

لأنه من قرية أندلسية وطبيعة متعايشة عزف لحن القلم «شحرور ألمع» العذب بدأ الغناء في «نقاشات الوطن» كقارئ كف.. أو فنجال.. ولأنه قارئ انتقائي منحه هذا التوهج أن يكون كاتبا أسبوعيا للوطن فكانت صدمة الانطلاق بإيقافه بعدما خشي مجايلوه ظهوره فصنع منه كاتبا ملهما مهما على رأس كتاب الشرق بعدما أعاده أستاذ الأقلام الرائدة قينان الغامدي.



ناهض صحافة..

بهدوء بدأ الكتابة بروح أنيس منصور وجسد مصطفى أمين.. حتى حين يكتب هذا البريدي تشعر بأنه بريد القلوب والعقول.. تشعر بأنه يكتب للمعاناة، للرحيل الذي تبدأ منه الحياة، لأنه باختصار «بانوراما» غائرة موغلة في كل اتجاه.. أديبا عاشقا حالما بالوطن، فيلسوفا جميلا ينثر ضحكاته في كل الطرقات المظلمة كي ينير دروب كل البؤساء.



تراتيل البريدي..

عالم مليء بالتناقضات والمفارقات المحمودة التي شكلت فلسفة إبداعية لا يجيدها غيره.. أنيق الكلمة، عميق الفكرة، يملك الجرأة والشجاعة.. يجيد الإيجاز، لأنه المختلف عن كل أقرانه من الكتاب.. كتابه «رسائل من جهنم « يمنحك لذة الإبحار دون بوصلة، لأنك وحدك من تدير كل بوصلات الفكر.. وهل لنا مناص من «نسائيات الجمعة»؟

تلك الرؤية التي تسمو فوق كل عبث الغوغائية والرومانسية السافلة كي تبرز لنا المرأة في ثوب القدسية، والصوفية الراقية، وثوب الأم والمدرسة الأولى. ولأنه الأصيل كانت وما تزال قريته «رجال ألمع» موطنه الأم.



رثاء إبراهيم طالع..

هو من مدرسة الأديب إبراهيم طالع، وكان من طلابه النجباء الأوفياء، تلميذه الذي ترسم ملامح أستاذه، وهو الذي قال له ذات مساء لو قدر لي ـ لا سمح الله ـ أن أرثي أستاذي إبراهيم طالع لقلت: اليوم أرثي أبي ومكتبتي.. واليوم يرثيه الأديب إبراهيم طالع ميتا بمقاله «الترتيلة الأخيرة».



فن الأموات..

يقول الكاتب محمد البريدي «نصف من تقرأ لهم الآن وترتاح إلى كتبهم ومؤلفاتهم هم من الأموات، ونصف من تستمع إليهم من الفنانين هم من الأموات كذلك؛ الأحياء العرب يفشلون في إضافة مزيد من الدهشة والألق والحب إلى حياتنا، ولذلك نهجرهم إلى إبداع الميتين الأجمل والأحلى».



ومضة:

تراتيل الفقد التي رسمها على كل ملامح قريته وزاويته وكل من قرأ وعرف الكاتب الراحل محمد البريدي.. تراتيل الفقد ترثيه بعد عام من رحيله، لأنه يحمل في جسده طفلا لا يحب الفقد، فكان هو البياض الذي كفن روحه روح أمه فرحل معها كي لا يشيخ بعدها.. فالأنقياء أمثاله لا يعيشون ذاكرة تناوش ذاكرة البكاء فقط، بل بذاكرة الباقين كي يكتبوا عنهم.