أربعة عقود بين قراءتين

يا كافي
يا كافي

الاثنين - 19 ديسمبر 2016

Mon - 19 Dec 2016

أربعة عقود مرت بين قراءتين لنفس الصفحات، حقا اختلفت الأحداث كثيرا لكن القارئ اختلف أكثر، نعم اختلف، فأنا اليوم أقرأ وأمام العينين نظارات للقراءة، وخلف العينين عقل مختلف، بقيت مشاغبته واختلف كل شيء آخر فيه.



إحسان عبدالقدوس، عندما تسمع هذا الاسم فأول ما يتبادر إلى ذهنك هو ذلك القلم الرشيق مبدع القصص الرومانسية الغرامية، بينما حقيقته كاتب سياسي من طراز رفيع.



(على مقهى في الشارع السياسي) كان عنوانا لسلسلة مقالات لإحسان عبدالقدوس، قرأتها أول مرة أسبوعا بعد أسبوع حين كان ينشرها منتصف السبعينات الميلادية، وذلك بعد إنهاء دراستي الجامعية وبداية الدراسات العليا في جامعة القاهرة.

والآن وجدت المقالات قد جمعت في كتاب، فقرأتها مرة أخرى بعد أربعة عقود من القراءة الأولى.



قراءة الكتاب اليوم تجعلك تنظر من ارتفاع أربعين سنة لأحداث عاصرتها، تنظر من علو شاهق إلى حيث كنت تسير وترى خطوات عقلك تسير بين تلك الأحداث.



يا إلهي كم اختلفت القراءتان. تمر السنين فيتمرد العقل، يتمرد على قناعاته، ويتيقن أن الجمود الفكري قاتل، فيجب ألا يكون لفكر الإنسان ثوابت إلا القيم العليا والمبادئ السامية وهي تلك التي لا تقبل المساومة، كالمطالبة بالعدالة، وحماية الفئة الأضعف في المجتمع، وقول الحق مهما كان مرا لسامعه وضارا بقائله، أما ما دون القيم فكله دون.



تنبع أهمية ما كتبه إحسان عبدالقدوس من ظروف كتابة تلك المقالات، فقد كانت مرحلة في غاية الأهمية، فهي من فترات التحول الكبرى في المجتمع، شهدت التحول من الاشتراكية للرأسمالية والمساس بدخل الفقراء، وشهدت الانشطار الحاد في طبقات المجتمع، شهدت بدايات النظرية الظالمة، نظرية تسليم المجتمع للقطاع الخاص، تسليمه مكبلا بهوانه وقلة حيلته. لم تتعلم المجتمعات العربية أن الخصخصة ليست هي الحل، بل العدالة هي الحل، خطأ أن يتساوى في الغرم الفقراء والأغنياء، وخطيئة أن يتحمل الضعفاء وزر قرارات الأقوياء.



كم هي خطرة التحولات الاقتصادية الكبرى، كم هي خطرة إن لم تراع ظروف الضعفاء، وكم هي قاتلة إن استنزفت الفقراء بعد أن جاملت الأغنياء، في الشدة تعتصر الفقراء عصرا، وفي الرخاء تمد للأغنياء مدا، وبرز يومها الصراع الأزلي، وفي كل صراع بينهما ينتصر المال على المنطق.



في تلك المرحلة جنت أسعار النفط فجنت عقول عربية كثيرة. وفي ظني أن بذرة اضطرار السادات لكامب ديفيد نمت في تلك التربة، ومنها توالت أحداث شلت العقل الجمعي العربي، وها نحن اليوم نبكي على عراق قتلناه.



اليوم وأنا أعيد القراءة تضاعف إعجابي بمهارة الكاتب في السير بدهاء بين الألغام، ورغم ذلك قدم قطعة أدبية سلسة رفيعة ضمنها تأملات فلسفية عميقة، بل عميقة جدا. تقرأها اليوم ولا تستطيع إلا أن تطلق آهات الإعجاب به، وتتحسر على عالمنا العربي.