عبدالعزيز الخضر

بين إحصائيات قوقل.. والفكر الدعوي

السبت - 26 نوفمبر 2016

Sat - 26 Nov 2016

تمتلك التقنية وأرقامها مصداقية أعلى من غيرها مع الاعتراف بحدود معينة من التلاعب، لكن من الصعب الاعتماد على هذا الهامش دائما وإنكار الواقع عبر تفسيرات مضللة، فالانترنت أصبحت اليوم مصدرا للتعرف على بعض جوانب المجتمعات من الداخل. في منتصف هذا الشهر عقد: الملتقى الوطني للوقاية من الاستغلال الجنسي للأطفال عبر الانترنت، كواحدة من الجرائم الالكترونية، وهي إحدى المبادرات الواعية من وزارة الداخلية، وقام بتغطية بعض ما جاء في اللقاء منصور الرقيبة في «سنابه»، وهو يتميز بخطاب فيه لباقة لتناول أي موضوع مهما كانت حساسيته، حيث يمتلك ذكاء اجتماعيا في مخاطبة شرائح متنوعة، فيقدم التوعية والتحذير خاليين من التقعر بالنصيحة.



ردت شخصيات دعوية بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على سناب الرقيبة للتهوين والتشكيك بالأرقام، ورمي كثير منها على الأجانب في البلد، لطرد التفسيرات المزعجة التي تخص المجتمع السعودي الذي يواجه متغيرات خاصة فيه، وهي بحاجة إلى وعي حضاري وفقهي للواقع أكثر من تشغيل الذكاء الدعوي، فمهما خفضنا ووجهنا بعض الأرقام فإنها لا تغير كثيرا حجم المشكلة. وليست هذه المرة الأولى التي يرد فيها على مشكلة هذه الأرقام وغيرها فهناك هاجس دعوي من عدة تفسيرات اجتماعية وحضارية مربكة، فالقضية ليست هل هو تفسير موضوعي وواقعي وفق رؤى اجتماعية ونفسية منهجية للداخل السعودي أم لا.. وإنما الرفض يستحضر الضرر بمصلحة معينة في الوعي الدعوي، وحسن النية فيها لا يكفي لتبرئة الذمة واستحضار مسؤوليتنا التاريخية في مواجهة مشكلات المجتمع.



ولأن التفسير ربما يقود تلقائيا إلى إشكالات أخرى تتطلب التنازل في مجالات معينة في الفضاء العام الترفيهي، حيث تفسر أسباب بعض الظواهر الأخلاقية السيئة في عالم النت التي تظهر المجتمع بصورة لا تتناسب مع ثقافته ونوعية الخطاب الذي يتلقاه، لوجود اختلافات محددة عن غيره في الفضاء العام اجتماعيا وترفيهيا مقارنة بدول عربية وإسلامية أخرى فيما يتعلق بالمسارح والحفلات والفنون والأنشطة الثقافية من نوع معين. فهنا تبذل الذهنية الدعوية ذكاءها الانتقائي في تخطئة هذه التفسيرات أو التهوين والتشكيك بالأرقام، فهذه المجالات يسهل التلاعب اللفظي بها، وعندما نقول الفكر الدعوي فهو يشمل بعض الفئات من الحركيين وغيرهم من العلماء والمهتمين بالعلم الشرعي والدعوة، وفق المفهوم الإجرائي وإلا فالدعوة أشمل وأرحب من الوعي الدعوي السائد اليوم، وعندما يغلو الجانب الدعوي فإن الرؤية السليمة للواقع تتعطل حتى في الجانب الفقهي، بحجة المصلحة وفق ذهنية الداعية وليس العالم والمفكر الذي يحترم الحقائق ويعالجها بشفافية وصرامة منهجية. وخوفا من أن تستغل هذه الأرقام فئات أخرى تعيش معها صداما كيديا فإنها تشعر بأنها تقدم خدمة نبيلة حتى لو أدت إلى التستر على العيوب، وصحيح أن كثيرا من الأرقام من الأفضل ألا تعلن.. لكن في هذا العصر لم يعد هذا السلوك ممكنا عندما ينشره الآخر عنا في إعلامه.



يجب أن نعترف وهذه حقيقة وليست تهويلا ومبالغات ناتجة عن خصومات كيدية، وإنما واقع نشعر به في مجتمعنا ويستطيع أي فرد عند مستويات عمرية متعددة يلاحظ ذلك بأن معدل الساعات اليومية التي يقضيها الشخص مع النت عالية جدا، وتشهد له كثير من مواقع التواصل، وأثرت على شرائح واسعة، وغيرت من اهتماماتهم وتفكيرهم الديني والقيمي والاجتماعي وتورط بعضهم بإرهاب أو انحرافات أخرى.. وهذا ناتج عن عدة عوامل متراكمة.



لقد تغير الفضاء الاجتماعي مع اتساع المدن واختفى الحي التقليدي القديم، الذي يجمع شباب وأبناء الحي بعلاقات وتواصل كما في الماضي يأخذ جزءا طويلا من يومهم. تزايدت حالات الفراغ.. دون أن نطور بدائل حضارية كافية، وأقول كافية لأنه يوجد فعلا بعض المحاولات المشكورة، فأصبح النت أكثر إغراء، ويزداد التسكع النتي بالإجازات بصورة كبيرة، وهذا ما يجعل محركات البحث تظهر بعض الأرقام بصورة لا تعجبنا، فالواقع أننا بحاجة ماسة لإحداث تغييرات كبيرة في الواقع المحلي في أشياء يمكن التسامح بها، فليس دائما «سد الذرائع» هو الصواب، فأحيانا يكون «ارتكاب أخف الضررين» هو الأولى والأسلم في بعض المراحل التاريخية.. وهو ما لا تستوعبه الكثير من الذهنيات الدعوية التي لا تدرك مستقبلا خطورة العناد في بعض الأشياء الفرعية.



لا يلام الخطاب الوعظي بعدم قدرته على تحصين مختلف أفراد المجتمع أو تحميله المسؤولية، فهذه رؤية ليست مشكلتها أنها ناتجة عن خصومة لدى البعض فيحمله حتى مسؤولية الفساد الإداري، وحتى بعض السلوكيات المرورية الخاطئة، فهذه الرؤية كأنها تفترض بأن الوعظ بذاته مهما كانت درجة جودته ومثاليته قادر على التحصين وإحداث النقلة الحضارية، وليس أسلوب الحياة اليومية والأنظمة في المجتمع المعاصر، وحجم الفراغ والترفيه والإنتاجية وغيرها، فالوعظ جانب محدود لا يمكن له أن يصحح كل أخطاء المجتمع.



[email protected]