محمد أحمد بابا

العمال والمحافظون

الجمعة - 25 نوفمبر 2016

Fri - 25 Nov 2016

سكنت قبل سنين بحي بمدينة «ينبع البحر» يغلب على سكّانه العمالة الوافدة يستأجرون مباني قديمة هجرها أهلوها لأحياء جديدة تطلبتها الحياة العصرية.



ومثّل انتقالي حينها من مدينة «ينبع الصناعيّة» ذات الحياة المنظّمة إلى أحياء العمال هذه مجالا أن أفكر في حياة أعمق تربط الإنسان بأخيه الإنسان دون فوارق اجتماعية باهتة.



في هذه الأحياء «عمال ومحافظون» ولكل منهما ما يميزه إذا نظرنا للاختلافات بين شخص وآخر وهو يلقي السلام على من يمر به أو يبتاع أرغفة خبز من «بقالة» الحي ويزاحمه عليها نفر من المواطنين وجمع من الوافدين.



يكرر مجتمعنا أنه مجتمع «محافظ» ويعلّق على شماعة «العمال» مظاهر الفساد والجريمة، ويدعي كثير من أفراد مجتمعنا أن أي ألم يصيبنا أو ظاهرة تجتاحنا لها ارتباط وثيق «بالعمال» في لوم لمجتمع سمح «للعمال» أن يختلطوا «بالمحافظين».

لا تنفي الدراسات أن في الخلطة سلبيات ربما سوغت للنرجسيين رمي الضّعفاء بالشرر، وإلقاء اللائمة على من لا حيلة له.

لكن مجتمع «العمال» الذي خالطته طيلة سنة ونصف ليس على حد سواء من الأوصاف التي يصف بها الأكثرية هذه الفئة التي تكسب حلالا ـ فيما أظن ـ وليست متماثلة في شرائحها التكوينية كما يحسب بعضنا.



وجدت في اختلاف جنسيات الوافدين الذين يسكنون - عزابا دون زوجات - كثيرا من الاجتماعيات الجميلة التي نفتقدها ونحن نحشر في منازلنا زوجات وأولادا، ولقيت في «عمال» منطقتي التي سكنت قلوبا رحيمة ونفوسا زكية وأخلاقا رائعة لم أعثر عليها في منطقة كنت أسكنها وهي تضم عائلات لهم بيوت فارهة وسيارات ثمينة وذوي قربى وأوضاع اجتماعية طيبة ووظائف مرموقة وقدرة مالية.



يبدأ يوم «العمال» بابتسامة صباحية تبحث عن الرزق في وجوه المارة، ويبدأ يوم «المحافظين» بعبوس وتقطيب جبين في وجوه الناس والجيران وكأنهم يبحثون عن تهمة يلصقونها بمن ينظر إليهم، ويسعى «العمال» لأن تكون صلاة الفجر فاتحة يومهم فيمتلئ بهم جامع الحي وينام أكثر «المحافظين» عن صلاة هي أم الصلوات ولو حضروها لرأيت الضّيق في تصرفاتهم متضجرين أن بالمسجد غيرهم.



لا ينظر «العمال» للنساء نظرة خبث ولا تحرش مهما كانت نفس العامل أو بيئته في الحي الذي سكنته، بل إنهم يوسعون الطريق لهن ويدخلون إلى منازلهم لو رأوا امرأة قادمة من بعيد في منظر عجيب كأن نملة سليمان قالت لهم «ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم المجتمع وجنوده وهم قادرون» بينما يؤمن أغلب «المحافظين» بالنظرة الأولى ويقتنعون بأن «العين بحر» وأمثلهم طريقة من ينظر من طرف خفي.



وهنا عرفت بأن «العمل» البدني والعرق المبذول الذي يطغى على طبيعة عيش «العمال» جعلهم حريصين على ألا تكون لنزوات نفوسهم علاقة بما جاؤوا من أجله وهو العمل والحصول على المقابل يبنون به حياة كريمة في بلادهم، وتيقنت بأن الروتين والرتابة وفقدان الشهية للحراك الاجتماعي الذي يعاني منه بعض «المحافظين» هو السبب وراء نظرتهم الدونية لمن سخرهم الله لهم يخدمونهم.



ويبدو أن «العمال» أكثر حظا في الاستقرار العاطفي والصحّة النفسية والتدين الطبيعي من «المحافظين» الذين شغلوا أفكارهم بمواجهة حروب وهمية متناسين حروبا حقيقية يشنها عليهم التقاطع، ويبدو أيضا أن «المحافظين» أكثر عرضة للأمراض المزمنة والنوبات القلبية من «العمال» الذين لا يراجعون المراكز الطبية غالبا إلا لعلاج إصابات عمل.



يحب «العمال» أوطانهم وهم في الغربة، وترى أثر ذلك واضحا على تصرفاتهم وهتافاتهم لمنتخب بلادهم ولبني جلدتهم - إن احتاج لمساعدة - ولقناة بلدهم الفضائية في كلّ مكان يسكنونه أو يعملون فيه، بل وترى دموعهم وهم يحدثون ذويهم في الهاتف أو وهم يودعون زملاء لهم عائدين لبلادهم.

وفي بعض «المحافظين» غلظة وبرودة وسلبية تصرف تجعلك تشك في انتماء الواحد منهم لوطنه الذي يعيش فيه ويأكل من خيره ولا يعرف غيره، والغريب بأن هؤلاء «المحافظين» هم أكثر الناس استفادة مادية واقتصادية من «العمال» الذين يعملون تحت كفالتهم وفي مؤسساتهم وشركاتهم ويأتمرون بأمرهم ويخافون من حيفهم.



أظن أن «العمال» حافظوا على الاسم والمسمى فهم يعملون وعملهم واضح في طريقة تعاملهم، وأظنّ بأن «المحافظين» حافظوا على الاسم وتخلوا عن المسمى، فهم محافظون على تحفظهم من العمال، تاركون لمحافظتهم على التعامل السوي، فلن أستغرب بعد اليوم استغلال الكثير من السياسيين للهتاف بحقوق «العمال» وادعاء بأنه نصيرهم، ليس لأنهم كادحون في الأرض بل لأن في تعهداتهم وفاء، وفي جوارهم أمان، وفي تعاملهم حب، وهم كذلك كما رأيت.



[email protected]