أحمد الهلالي

شوهوا الحاضر.. وارتدوا يشوهون البياض!

الثلاثاء - 15 نوفمبر 2016

Tue - 15 Nov 2016

المدونة التراثية مثقلة بالكثير من المعلومات، غثها والسمين، سواء في الجانب الفقهي أو الأدبي أو التاريخي أو الثقافي، والسجالات بين علماء ورموز الحقب الماضية لا تنقطع ولا تنتهي، لأن التدوين حفظ كل شيء منذ القرن الثاني الهجري، وما وصلنا من تلك الحقب ما زال منجما تنقب فيه الأجيال، وما كان يحدث في تلك المرحلة طبيعيا جدا في أي مجتمع بشري حي متحرك، ازدهرت فيه الأمة وبلغت مرحلة الإنتاج المعرفي، وصار الاختلاف ثراء حقيقيا.



المشكلة ليست في أولئك القوم الفانين، بل فينا نحن أبناء العصر، فقد انكب الباحثون على تراث الأمة، منهم من يبحث عن الجواهر والدرر، ومنهم من ينقب عن الفحم والسفاسف، حتى انشغل البعض بالبحث في عقائد علماء الأمة اللامعين، ينقب عن اختلافهم، ثم يصرخ بأعلى صوته (وجدتها وجدتها)، فلان المتوفى من 1000 سنة كافر، وفلان عقيدته كذا، وفلان قال عن فلان إنه كيت وكيت، فيشغل نفسه والناس بأمور لم يقف عليها، وإنما هي مرويات تقبل الصحة والخطأ، ولها أحوال وهيئات وظروف لا تقبل الجزم.



وصلتني رسالة عبر تطبيق (الواتس اب) أشغل صاحبها نفسه بتكفير العالم المسلم الشهير (ابن سينا) وفرقته التي ينتمي إليها، ثم دجج الرسالة بأقوال العلماء قديما وحديثا عن الرجل، وعتب حار، ونفثات مصدور من جهل الناس بهذا الإنسان حتى نقشوا اسمه على واجهات الأكاديميات والمستشفيات والصيدليات، وأن هذا الإنسان وإن كان طبيبا، لكن في غير المسلمين أحذق منه، ولا يصح أن نفخر به كمسلمين، فهو لا يمثلنا ولا يعبر عن ثقافتنا بفلسفاته ومنطقه الذي لم يعجب السابقين وأتباعهم من اللاحقين.



وتذكرت أحد أصدقائي حين تعب وأنجز خطة رسالته عن موضوع يتعلق بكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، لتوافق عليه المجالس العلمية حتى وصل مجلس الدراسات العليا، فانبرى المعترضون من غير المتخصصين في الأدب واللغة، بحجة أن لديهم شبهة (تشيع) في أبي الفرج، ولا بد أن يبحث الطالب عن موضوع آخر، فأضاعوا سنين من عمر الباحث قبل وبعد اعتراضهم، فكان يبارز الطواحين، وأكرهوه أن ينقل موضوعه إلى العقد الفريد لابن عبدربه، مع أن كتب الفقه والحديث وغيرها تستشهد بكتاب الأغاني في بعض الأمور.



لو نظرنا للأمم المتقدمة لرأينا كيف ينتشر باحثوهم في كل ثقافات الدنيا، يبحثون ويناقشون ويدرسون، دون النظر إلى معتقد أهل الثقافة، أو إلى معتقد العَلَم المدروس أيا كان، ينظرون لمنجزه الإنساني، وما عداه فحسابه على الله، ونحن للأسف اليوم لم نكتف بالطائفية الحية بنارها الموقدة، بل امتطينا شررها إلى الماضي الأبيض برموزه الذين كنا نفاخر بهم أمام الآخرين، ونعزو إسهاماتنا في نهضة العالم اليوم إلى منجزاتهم السابقة في تلاقح الثقافات وبناء بعضها على بناء بعض.



ثقافة كراهية المختلف عقديا وفكريا ستحرق الفتات الذي لدينا، فلم تسلم حتى الرياضة من هؤلاء، وحتما ستهوي بنا أكثر إلى درك لا نتخيله، فليهب العقلاء والمفكرون وقادة الرأي إلى نجدة الفكر العربي الذي تتكالب عليه الظلمات بفعل خطابات سوداء لا يقرها عاقل، ولا يقبل بها مجنون. والسلام.



[email protected]