أطباء في الشتات

الثلاثاء - 08 نوفمبر 2016

Tue - 08 Nov 2016

بلادي وإن جارت علي عزيزة.. وأهلي وإن ضنوا علي كرام.. «قتادة بن إدريس».



قد يكون من الصعب تحديد الأسباب التي تدفع الإنسان للهجرة في عصرنا الحالي، لأن الأسباب الاقتصادية للهجرة انتفت منذ منتصف القرن الماضي بعد تدفق النفط، صحيح أن ترحال وربما هجرات القبائل العربية (والتي ينتمي إليها معظم سكان هذا الوطن) لم تتوقف عبر تاريخها الطويل، إلا أنها تفعل ذلك في الغالب بحثا عن مصادر المياه والأراضي الفسيحة للرعي أو الزراعة، إنه ترحال أكثر من كونه هجرة، تحمل القبائل معها ثقافتها وتقاليدها وتحافظ على لغتها ولهجاتها حتى يعود بها المطاف إلى الوطن.



وبلادنا التي شهدت نهضة علمية وتنموية في العقود الأربعة الماضية، عقب عودة آلاف المبتعثين من الطلبة بعد حصولهم على شهادات عليا في شتى العلوم والمعارف من بلاد الإفرنجة. أتيحت للأطباء منهم ولأجيال متلاحقة فرص مذهلة للالتحاق بأرقى الجامعات والمستشفيات في أوروبا وأمريكا، وبعد عودة الجيل الأول كانت الجهود متضافرة من أجل إنشاء الأقسام الطبية في المستشفيات وسن القوانين لممارسة مهنة الطب وتشجيع النشء للانخراط في التخصصات الحديثة، ثم تلاه الجيل الثاني مع مطلع الثمانينات ليشرع في إنشاء المراكز المتخصصة مثل الأورام وزراعة الأعضاء وأمراض وجراحة القلب، بالإضافة إلى التخصصات الدقيقة في أمراض الباطنة والأطفال، أما الجيل الثالث والذي عاد في نهاية التسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة فقد كان عليهم خوض صراعات غير متكافئة مع أطباء استوطنوا تلك المناصب، انتاب العديد شعور متزايد بالأسى والإحباط، فبعد هذه السنوات الطويلة والشاقة من الدراسة والعمل والاغتراب، وجدوا أنفسهم غير قادرين على مباشرة مهامهم بالطريقة التي تعلموها في سنوات الابتعاث وفقدوا القدرة على العمل والتغيير، لم يكن ذلك الصراع إلا امتدادا للاستقطاب المناطقي أو القبلي، وفي أحيان أخرى هو فشل إداري ذريع بالتعامل مع هؤلاء الأطباء (New Comers) المحفزين والذين حملوا الكثير من الأحلام والآمال بتغيير نوعية الخدمات الصحية المقدمة كل حسب تخصصه.



لقد نشأت الكثير من الصدامات والمشاحنات في العقدين الماضيين داخل أروقة الصروح الطبية الكبرى، وكان الوضع معقدا بين طرفين غير متكافئين، فرضت شروط شديدة الصعوبة، تجعل من استمرارهما أمرا بالغ الصعوبة، حدث على إثر ذلك تنقلات صعبة بين تلك المؤسسات الطبية الحكومية في محاولة للاندماج والتأقلم، وكنت بينهم حين غادرت القطاع الحكومي. في عام 2004، ربما في طليعة الأطباء السعوديين الذين اتجهوا بشكل كامل للعمل في القطاع الصحي الخاص. وفي غياب جهة تحمي هؤلاء الأطباء وتدرس أوضاعهم (كنقابة للأطباء) فإن الكثير من الأحلام والأفكار تم اغتيالها وفي مرحلة مبكرة.



لو تجاوزنا تنقلات الأطباء داخل المملكة أو حتى من رحل الى دول الخليج العربي، وانتقلنا للحديث عن الأطباء الذين عادوا إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، فإننا ندرك مدى فداحة هذا الأمر، ولو أتيحت فرصة لصناع القرار في المؤسسات الطبية المختلفة في البلاد لمتابعة أحوالهم في أرض الشتات لأصيبوا بالذهول من المكانة العلمية والخبرة الهائلة التي حصل عليها أبناء جلدتنا في الشتات.



المهم أننا أصبحنا في مواجهة حالة تدعونا للتأمل والبحث بجدية عن الأسباب والظروف التي ساعدت على نشأتها، وأنا هنا أتحدث عن ثلاثة زملاء في تخصصات الجراحة المختلفة وتربطني بهم علاقة منذ مقاعد الدراسة وهذا غيض من فيض، الأول الدكتور غنام الدوسري استشاري جراحة القلب والذي عاد إلى كليفلاند كلينك وهي نفس الجامعة التي حصل منها قبل 15عاما على الزمالة الأمريكية، وكان مبتعثا من مستشفى الملك فيصل التخصصي قبل أن يصبح رئيس جراحة القلب ومدير برنامج زراعة القلب في جامعة تكساس، الولايات المتحدة الأمريكية، والدكتور محمد العمران استشاري جراحة الأوعية الدموية والشرايين يعمل الآن رئيس جراحة الأوعية الدموية والشرايين في جامعة تورونتو بكندا، والمشرف العام على مركز أبحاث جراحة القلب والأوعية الدموية، وهو الذي تخرج في نفس الجامعة قبل 15 عاما ليعود للعمل في كلية الطب جامعة الملك سعود لمدة 8 سنوات قبل أن يعود أدراجه إلى كندا، والزميل الثالث هو الدكتور بدر الجبري الذي شغل منصب رئيس وحدة جراحة الشرايين في جامعة الملك سعود والذي هاجر أيضا لكندا ليعمل في جامعة تورونتو وهو الذي تخرج في جامعة ميغيل في نفس التخصص والفترة الزمنية لزميله الدكتور محمد العمران. هؤلاء الزملاء الذين رحلوا عنا، وأيا كان المنفى الذي اختاروه فإني على يقين أنه مكان قاس وموحش لهم جميعا.



الآن، وإذا وضعنا جانبا ما حدث في الماضي، فإن استمرارهم في أرض الشتات، هو أمر ضد رغباتهم وفوق طاقة احتمالهم، ولذلك فإنه ينبغي على صناع القرار الجدد في وزارة الصحة، ونحن على وعد التحول الوطني في القطاع الصحي، قراءة هموم وأحلام هؤلاء الأطباء وما اعتراهم من مصاعب وإخفاقات وبذل كل الجهود لتذليل تلك العقبات، ومع التأكيد على المصلحة العامة للوطن والحاجة الماسة للكفاءات الطبية، فإنه يتحتم على المسؤولين بحث هذا الأمر ودراسته وإيجاد الحلول المناسبة، عليهم القيام بذلك قبل فوات الأوان وهذا أمر شديد الأهمية.