عبدالعزيز الخضر

ما بعد عصر الفضائيات الذهبي!

السبت - 05 نوفمبر 2016

Sat - 05 Nov 2016

احتفلت قناة الجزيرة القطرية قبل أيام بالذكرى العشرين لانطلاقة تجربتها المبكرة كقناة إخبارية، مستفيدة من تعثر الاتفاق بين قناة بي.بي.سي العربية مع قنوات أوربت السعودية وتوقف بثها في منتصف التسعينات. وكانت قناة الجزيرة قبل أشهر أعلنت عن الاستغناء عن عدد كبير من موظفيها في إطار إعادة النظر في هيكلتها. وفي سبتمبر الماضي احتفلت مجموعة mbc بمناسبة مرور ربع قرن على ولادتها، كأبرز وأقدم تجربة دشنت عصر الفضائيات العربية الخاصة، وحافظت على الحضور نفسه الذي انطلقت منه بالرغم من تعدد المنافسات في مجال الترفيه والدراما، ولم تتعرض لمطبات كبيرة في حضورها مع طول السنوات وهي حالة نادرة في النجاح تستحق قراءة متأنية، في أن تبقى في الصفوف الأمامية في مجالك.



هذه المناسبات تعيد لنا تذكر العصر الذهبي لهذه القنوات والنظر في متغيرات سوق الإعلام الذي ظل منذ منتصف التسعينات يتعرض لموجات متتالية من التحولات كل بضع سنوات. تعيد ترتيب قوة التأثير في الرأي العام، وتعرض العديد من المؤسسات الإعلامية والصحفية إلى هزات ضخمة مع استمرار تمدد الانترنت وقدرتها المستمرة على مفاجأة الواقع بما هو جديد وما زال الأفق مفتوحا، يضغط على حضور الأدوات القديمة، وما يبدو واضحا اليوم مع كل هذه الخضات التي حدثت مع كثرة انتشار تعدد منصات الـتأثير، والتفتيت المستمر للجمهور ولزمن المتابعة، أن كثيرا من قواعد المنافسة تغيرت جذريا.



وعندما نشير إلى نهاية عصر ذهبي لأي وسيلة إعلامية لا يعني نهاية وجود تأثيرها، فالواقع أن كثيرا من الوسائل استمرت وتكيفت مع الأوضاع الجديدة، ولهذا يجب أن نميز في القول بين مراحل كل وسيلة، فالراديو ما زال محتفظا بحضوره، لكن لا يقارن بعصره الذهبي قبل أكثر من نصف قرن، وعصر الفضائيات الذهبي لم يدم طويلا سوى عقد ونصف ثم جاءت رياح النت والأجهزة الذكية، ومع ذلك فالفضائيات تبدو أفضل حظا من الصحف في استغلال هذه المتغيرات لصالحها بالتواجد في منصات التواصل الاجتماعي، والصحف الآن تحاول أن تتكيف مع هذه المرحلة وتعيد طريقة وصولها للقارئ، لكن هناك عدة اعتبارات يجب أن تكون حاضرة للوعي بهذا التفتت الإعلامي الذي حصل، وكيف أن الفرد غير المؤسسي، والذي كان يوما ما مجرد رقم من المشاهدين والمتابعين أصبح ينافس هذه الوسائل بالتأثير ويسحب جزءا كبيرا من الجمهور وحصة الإعلان.



وهناك عدة ملاحظات حول هذه المتغيرات لتصور طبيعة ما يحدث اليوم، فالذي تضرر بصورة مباشرة هو المجال الإخباري والرأي السياسي في الفضائيات أو الصحف، وسرعة وصوله، ولم تعد متابعة نشرات الأخبار بوقت محدد مما ينتظره المشاهد كعادة يومية، فالخبر يصل إليه بأي لحظة عند حدوثه، ولهذا نلاحظ أن تأثر القنوات الرياضية أقل بكثير ومعها مختلف قنوات الترفيه. تأثر مجال التأثير السياسي في حرية النشر والتعبير كان على حساب القنوات الإخبارية، فارتفاع سقف مواقع التواصل لا يقارن، ولا يمكن مقارنته بهذه المؤسسات المسؤولة، حيث فقدت عنصر إثارة وجذب كانت تتميز به عن القنوات الحكومية في الماضي، وأصبحت وكأنها قنوات حكومية. ولم يعد موضوع الحرية وشعارات الرأي والرأي الآخر، إلا مجرد ذكرى لمرحلة انتهت، والحرية نفسها تعرضت لاهتزاز كبير مع الاضطرابات السياسية والاستقطابات الحادة، وتحولت إلى مرحلة من الصراع المباشر والمكشوف.



ومع أن القنوات والصحف اليوم تبدو مستفيدة من هذه المواقع في البحث عن متابعيها، عبر التواجد في هذه المنصات وتحظى بمتابعة من الملايين، لكن هذا النوع من الحضور مهما كانت قوته يختلف عن حضورها قبل عصر النت والأجهزة الذكية، خلال المرحلة التقليدية حيث كانت تنفرد القناة بمتابعها طوال ساعات اليوم، فالحساب بتويتر مثلا مهما كان بالملايين، فمن يتابعها هو أيضا يتابع مئات الحسابات معها التافهة والجادة، فتركيزه أقل ومشتت، فتصبح هذه القنوات العملاقة في نفس التايم لاين الذي توجد فيه حسابات أفراد عاديين ومشاهير آخرين، شيوخ دين ووعاظ، وفنانين ولاعبي كرة، ومجموعات كثيرة كسبت شعبيتها بطرق متنوعة من تهريج اجتماعي أو سياسي أو ديني.



وحتى هذا التواجد هو في حقيقته حضور اضطراري من هذه المؤسسات الإعلامية الكبيرة، فالواقع أن هذا الحضور يخدم هذه المواقع ويزيد من جمهورها، ويجعل المتابع لها يشعر بأن كل شيء عنده ولا يفوته شيء، والحقيقة الكبرى التي يجب أن يدركها الجميع اليوم أن زمن المشاهدة الإعلامية أصبح متشظيا بصورة يصعب قياسها. وبالرغم من ضخامة هذه التحولات فلا تزال أمام الكثير من الصحف والقنوات فرص كبيرة في استرداد حصتها وقوة تأثيرها، بأساليب متعددة لا يمكن للأفراد والهواة مجاراتها، عبر تحديد عناصر القوة التي تملكها واستثمارها، من خلال التميز بإنتاج مواد إعلامية قوية ذات محتوى عال يصمد أمام التحديات المتنوعة، وهذا التميز ليس مشكلته في الإمكانيات وإنما في الأفكار الذكية الغائبة من النخب في هذا المجال، والتي يبدو أنها تعرضت لاهتزازات كبيرة وثقتها بنفسها، ونضب إبداعها وأصبحت مجرد صدى لإعلام تواصلي سائل بدون رؤية!



[email protected]