بخارى.. منجم المعرفة وبلاد العلماء

زرت مدينة بخارى في أوزبكستان قبل أكثر من 20 عاما وألفيتها مدينة قديمة جدا، وكل شبر فيها ينبئ عن تاريخ قديم، مدينة من القرون الوسطى فعلا،

زرت مدينة بخارى في أوزبكستان قبل أكثر من 20 عاما وألفيتها مدينة قديمة جدا، وكل شبر فيها ينبئ عن تاريخ قديم، مدينة من القرون الوسطى فعلا،

الخميس - 17 يوليو 2014

Thu - 17 Jul 2014



زرت مدينة بخارى في أوزبكستان قبل أكثر من 20 عاما وألفيتها مدينة قديمة جدا، وكل شبر فيها ينبئ عن تاريخ قديم، مدينة من القرون الوسطى فعلا، بيد أنني عندما زرتها هذا العام فوجئت تماما بأنها تغيرت بشكل كبير، وحسنا فعلت الحكومة الأوزبكية، إذ حافظت على تلك المدارس والمعاهد والشواهد التاريخية، وقامت بترميم تلكم الآثار التي كانت مهملة بشكل كبير إبان الحقبة السوفيتية، بل هدم كثير من تلك الآثار في تلك الحقبة البائسة.



رهبة التاريخ



لا تملك إلا أن تستشعر الرهبة، وأنت تقف على سور المدينة الذي يمتد تاريخه على مدى 2500 عاما، شامخا وشاهقا.

يقف السور منتصبا وحاكيا عن أولئك الذين دمروه عبر التاريخ، ويرممه أهل المدينة مع كل هدم له من قبل الغزاة الذين استولوا على المدينة.

السور عالي الارتفاع، ومنيع جدا، ووقتما اقتربت منه، شعرت بمشاعر تباينت بين الفخر والأسى والحنين إلى الماضي والشغف بما ستحكيه هذه الحجارة عن عظماء مروا بها أو ولدوا داخل المدينة التي تحيط بها.

عندما يلج السائح مثلي تلك البوابة العظيمة للمدينة التاريخية، يهمس المرشد السياحي - ابن بخارى- بكل تباه: أنت تعبر بوابة، دخلها قبلك الإسكندر المقدوني وقتيبة بن مسلم الباهلي وجنكيز خان وتيمورلنك وبقية غزاة وقادة خلدوا اسمهم في التاريخ..عندها لا تملك إلا أن تقف رغما عنك هنيهة، تستعيد تلك اللحظات الخالدة، وتزفر آهة إن كنت مولعا بحوادث الأزمنة وسير الأيام.



تاريخ بخارى



نشأت مدينة بخارى قبل الإسلام بقرون بعيدة، وكان اسمها باللغة الصينية “نومي”.

أما عن سبب تسميتها باسم “بخارى”، فيرجع إلى الكلمة التركية المغولية “بخر”، والتي تعني الصومعة أو الدير، وقد كان بالمدينة معبد بوذي كبير قبل دخولها في الإسلام، ويحتمل أنه السبب في تسميتها باسم “بخارى”.

أما الأصح والمتداول هناك بين أهل المدينة عندما سألتهم، فقد قيل إنها مشتقة من كلمة “بخار” وتعني العلم الكثير، وسُميت بهذا الاسم لكثرة علمائها.

وبحسب موقع “آسيا الوسطى” فإن مناخ هذه المدينة، متقلب جاف بسبب قربها من المناطق الجبلية، وشتاؤها طويل وبارد، وربيعها ممطر، وصيفها حار جاف، أما خريفها فيتميز بالنشاط والحيوية.

ويمرّ بمدينة بخارى عدة أنهار أهمها: نهر جوى موليان، ونهر رودشابور، ونهر فرقان العليا، ونهر فرقان الدود.



وصول الإسلام



كنت سألت مرافقي المثقف عن تاريخ بخارى، فأجابني بأن مصادرهم التاريخية تقول بأنها أسست قبل 500 عام قبل الميلاد، وعدت إلى “الويكيبديا” لأقرأ كيفية دخول الإسلام، فوجدت أن “أغلب الروايات تتفق على أن أول من اجتاز النهر من المسلمين إلى جبال بخارى هو عبيد الله بن زياد والي خراسان سنة 54 هـ / 674 م، وكان على عرش بخارى في ذلك الوقت أرملة أميرها، التي تجمع أغلب المصادر على تسميتها «خاتون» وهو لفظ تركي معناه «السيدة».

وقد أرسلت خاتون إلى الترك تستمدهم فلقيهم المسلمون وهزموهم، فطلبت خاتون الصلح والأمان فصالحها عبيد الله بن زياد على ألف ألف درهم.

ثم ولَّى الخليفة معاوية بن أبي سفيان (41- 60 هـ/687- 706 م) سعيد بن عثمان بن عفان خراسان سنة 56 هـ، فقطع النهر وغزا سمرقند وحملت خاتون إليه الأتاوى وأعانته بأهل بخارى.

ويذكر النرشخي (286- 348 هـ/899- 959 م) أن «خاتون» حكمت 15 سنة بوصفها وصية على ابنها القاصر طغشاده.

ولكن الحكم العربي لم يتوطد في تلك المنطقة إلا في خلافة الوليد بن عبد الملك (86- 96 هـ) حينما ولَّى الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراقين (75- 95 هـ) قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان (86- 96 هـ) وأمره بفتح ما وراء النهر.

فتح قتيبة بخارى سنة 90 هـ وكان حاكمها آنذاك «وردان خداه»، الذي استنجد بالسّغد (الصغد) والترك فأنجدوه، لكن قتيبة انتصر عليهم بعد قتال عنيف، وجُرح خاقان الترك وابنه، وملَّك قتيبة طغشاده بخارى بعد أن أجلى خصومه عنها.

وقد قُتل طغشاده سنة 121 هـ في معسكر والي خراسان نصر بن سيَّار على يد دهقان من دهاقين بخارى.

يذكر النرشخي أن أهل بخارى كانوا يُسْلِمون ثم يرتدون حين يغادرهم العرب، فلما فتح قتيبة المدينة رأى أن أفضل وسيلة لنشر الإسلام بين السكان هي أن يُسكِن العرب بينهم، فأمر أهل بخارى أن يعطوا نصف بيوتهم للعرب ليقيموا معهم ويَطَّلعوا على أحوالهم فيظلوا على إسلامهم، ومن الطبيعي أن يجد إجراء قتيبة مقاومة تجلَّت في موقف قوم ذوي قدر ومنزلة رفضوا قسمة بيوتهم ومتاعهم، فتركوها جملة للعرب وبنوا خارج المدينة 700 قصر بقي منها إلى عهد النرشخي قصران أو ثلاثة كانت تسمى قصور المجوس.

وبنى قتيبة المسجد الجامع داخل حصن بخارى سنة 94 هـ/712 م وكان ذلك الموضع بيت أصنام، فلما ازداد انتشار الإسلام لم يعد ذلك المسجد يتسع لهم فبُني مسجدٌ آخر بين السور والمدينة في عهد هارون الرشيد (170- 193 هـ).





علماؤها



ينتسب إلى بخارى كثير من العلماء والفقهاء والمحدّثين الذين ملؤوا الدنيا علما وتقوى، ويأتي في مقدمتهم:




  •   أبو عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري: صاحب الجامع الصحيح، المعروف بصحيح البخاري.


  •   ابن سينا، الفيلسوف والطبيب.


  •   أبو حفص عمر بن منصور البخاري المعروف باسم “ البزار”، الإمام الحافظ محدث بخارى.


  •   أبو زكريا عبدالرحيم بن أحمد بن نصر البخاري الحافظ.


  •   أبو العباس أحمد بن عبدالواحد المقدسي الحنبلي الملقب بالبخاري.


  •   بهاء الدين النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية المعروفة.





التميس والرز البخاري



الوافدون من بلاد بخارى إلى السعودية من العقود الطويلة، جلبوا ثقافة وأنماطا معيشية – كباقي الجاليات التي وفدت الحجاز عبر مئات السنين- وأثروا المجتمع ببعض ثقافتهم، ولربما كان التميس البخاري والرز البخاري من أهم ما ساد لليوم في مجتمعنا، والكثيرون أدركوا مخابز التميس البخاري في وسط مدينة الطائف بحارة البخارية، وكيف كان أهل المدينة يأتونها، والخبازون من الرعيل الأول يتفننون في صنع التميس الذي يزينونه بالسمسم تارة وبقطع البصل الدقيق تارة، وكان البعض يفضل أكله مع الشاي المنعنع وحده، من فرط لذته، فيما الآخرون مع جبنة “الشيدر” في أجواء الطائف الباردة وقتذاك.

عندما أتيت السوق، هالتني أصناف الخبز الموجودة هناك، ففضلا عن التميس المعروف لدى الجيل القديم، هناك أصناف وأشكال شتى له، وكل واحد ألذ من الآخر، ورغم تعدد زياراتي لمدن أوزبكستان، إلا أن بخارى تميزت بهذا الخبز، وبطبق الفلو “اسم الكبسة البخارية لدينا”، فلم أذق في أية مدينة - سوى فرغانة - رزا بهذه اللذة، ورغم أنني أقوم باستضافة بعض الفضلاء، وأتشرف بتقديم الرز البخاري لهم في جدة، إلا أن تلك الوجبة الشهيرة لها طعم مختلف ورائع في بخارى، فهم يتفننون فيها بشكل عجيب، وتأكل ولا تشعر بالشبع من لذة الطهي.





في أعين السيّاح



شعرت وأنا أتجول في بخارى وأطالع تاريخها وأتنفسه، أنه مجرد إحساس خاص بي.

ولكن سائحة أوروبية تدعى باهشيلووا كتبت بعد زيارتها بخارى: بإمكاننا الإحساس بالأجواء التي كانت سائدة في بخارى، حين كانت هذه المدينة القديمة مركزا تجاريا كبيرا على طريق الحرير.

لغاية الآن، تحت هذه القباب، تباع السلع التي وصلت إلى هنا منذ مئات السنين، بالإضافة إلى السلع المحلية.

وتتحدث السائحة عن كرم الضيافة، وتنقل عن دوستن راجابوف أحد سكان المدينة قوله: “ضيفنا كوالدنا..الآن، كما كان عليه الحال في العصور القديمة نستقبل الضيوف، كما نستقبل والدنا”.

وتضيف السائحة الأوروبية: الضيوف الذين يأتون إلى بخارى من كافة أنحاء العالم يشعرون بإيقاعات الماضي.

الأزياء تبدو كأزياء الراقصات اللواتي قدمن مع القوافل إلى هذا المكان.



سر السكاكين



من يعرف سوق الطائف القديمة قبل خمسة عقود، يعرف الزاوية التي يتفنن فيها بعض الأسر البخارية في صناعة السكاكين، وهي حرفة يتوارثونها، السيدة باهشيلووا تنقل عن أسطة شاكر التي تقول عنه إنه من عائلة توارثت الحدادة في بخارى منذ سبعة أجيال، أنه يعرف أسرار إنتاج سكاكين بخارى، ويقول: هناك موسيقى في أعمال الحداد، الموسيقى هي موسيقى ضربات القلب، توك توك، توك توك..وتضيف أنهم توارثوا أسرار الحرف اليدوية القديمة، وأسرار طهي الأطباق التقليدية أيضا، والتي كانت تقدم للضيوف في زمن طريق الحرير وتقول: مئذنة كايلان من الرموز الأكثر شهرة في بخارى، تاريخها يعود إلى القرن الحادي عشر.

كانت تستخدم كمنارة أيضا من خلال شعلة في القمة لإرشاد العديد من القوافل المتوجهة إلى هذه المدينة.

مركز بخارى التاريخي على قائمة التراث العالمي لليونسكو.

إنه أحد روائع المدينة، هذا الضريح من سلالة السامانيين شيد في القرن العاشر، واجهته عبارة عن لعبة ألوان تتغير بتغيير الطقس.

الخبراء يقولون إن هذا بسبب طريقة البناء.

وتقول باهشيلووا: المعماري الذي شيد هذا الضريح اعتمد 18 طريقة في التشييد.

إن كنا قرب البناية، نرى في كل جبهة عشر نوافذ.

لكل نافذة زخرفة خاصة، مواد البناء مختلفة، لذلك تختلف النوافذ.