إثيوبيا تهدم السدود أمام التعايش مع الأديان
قبل أن تتحد أيدي الإثيوبيين لبناء سد النهضة، كانت قلوبهم قد عرفت معنى الاتحاد منذ عصور طويلة، متجاوزين عقبة الاختلاف الديني، فأصبحوا لا يعيرون واسع اهتمام لمسألة ديانات الأشخاص،
قبل أن تتحد أيدي الإثيوبيين لبناء سد النهضة، كانت قلوبهم قد عرفت معنى الاتحاد منذ عصور طويلة، متجاوزين عقبة الاختلاف الديني، فأصبحوا لا يعيرون واسع اهتمام لمسألة ديانات الأشخاص،
الاثنين - 30 يونيو 2014
Mon - 30 Jun 2014
قبل أن تتحد أيدي الإثيوبيين لبناء سد النهضة، كانت قلوبهم قد عرفت معنى الاتحاد منذ عصور طويلة، متجاوزين عقبة الاختلاف الديني، فأصبحوا لا يعيرون واسع اهتمام لمسألة ديانات الأشخاص، إذ إن لبلادهم تاريخا طويلا من الحرية الدينية والتعايش بين أهل الديانات التي حلت في وقت مبكر على أرضها، بعد أن وجدت فيها محضنا خصبا ولقيت تابعين من كل فج، فهنالك الممالك المسيحية ابتداء من اكسوم ولالبيلا ووصولا لمملكة لشواء المسيحية، وكذلك اليهودية متمثلة في الفلاشة والذين يقول كثيرون إنهم من أحفاد سليمان وسبأ.. غير أن للإسلام قصة أخرى لا تنتهي في إثيوبيا.
ربما يغيب عن الذهن أن إثيوبيا ذات الـ90 مليون نسمة تستأثر فيها الديانة الإسلامية بحصة تتجاوز الـ50% من التعداد السكاني.
ولا عجب، فهذه البلاد التي قامت على أرضها أقدم الممالك المسيحية، عرفت الإسلام قبل أن تعرفه جزيرة العرب، وذلك حين هاجر إليها بعض الصحابة في بدايات الدعوة الإسلامية بعد أن لقوا من قومهم أصناف العذاب، فكان البحر الأحمر منفذ العبور إلى إثيوبيا، أو بلاد الحبشة، التي شكلت ملجأ لهم، ووجدوا في ظلال ملكها العادل النجاشي ترحابا وأرضا خصبة لنشر الدعوة الإسلامية في أفريقيا ككل وإقامة المساجد والخلاوي لتدريس القرآن وعلومه.
ويقول الأستاذ المحاضر في قسم اللغة العربية بجامعة أديس أبابا محمد أمين حسين: دخل الإسلام في البدء عن طريق الصحابة في الهجرتين الأولى والثانية، وكان لطلاب العلم الإثيوبيين والدعاة دور كبير أيضا، وخاصة الذين درسوا في الخارج، والذين عملوا على نشر اللغة العربية والدعوة الإسلامية، ومن البلدان التي كانوا يهاجرون إليها وكان لها دور في توطيد الرسالة الإسلامية وانتشارها في إثيوبيا: السعودية والسودان ومصر واليمن والتي تعتبر أهم مصادر الوعي الإسلامي في إثيوبيا على حد قوله.
ممالك إسلامية
وعلى أسس هذه الهجرة الأولى تكونت ممالك إسلامية كان لها صيتها وأصبحت مركز إشعاع للرسالة الإسلامية في الشرق الإسلامي مثل مملكة هرر التي تقع في شرق إثيوبيا والتي ما زالت معالمها موجودة حتي الآن ومن أبرزها حصن جيغول الذي ما زال صامدا عبر العصور، وهو أول تراث إسلامي في إثيوبيا ويشبه بناؤه العمارة الإسلامية في العصر الأموي والعباسي، كما تتميز إثيوبيا بوجود عمارة إسلامية فريدة من نوعها ومتاحف للتراث الإسلامي والخط العربي، إذ تعد من أقدم المراكز في الشرق الأفريقي لتعليم العربية وعلومها.
وهنالك أقاليم في إثيوبيا يعتبر جل سكانها من المسلمين كإقليم العفر الذي يقع في شرق إثيوبيا وهنالك إقليم الصومال الإثيوبي (أوغادين ) ، وإقليم اروميا في أواسط إثيوبيا وإقليم بني شنقول قمز في غرب إثيوبيا.
مظاهر إسلامية
ومن أكثر الصور الجميلة لتآلف المسلمين في إثيوبيا التجمع لصلاة العيد، ويتم ذلك في الاستاد الدولى وسط أديس أببا، حيث تتوقف حركة السيارات ويسير الكل مشيا على الأقدام وهم يهللون ويكبرون في أجمل الصور التي لا تفارق الذاكرة، ويتم إغلاق الطرقات حتي ينتهي المسلمون من أداء صلاة العيد ثم يعود الجميع لمنازلهم وهم ينشدون الأناشيد والمدائح والتهاليل وهي من المناظر التي تختلف عن بقية دول العالم.
ولصلاة الجمعة مظهر آخر مميز في جميع المدن الإثيوبية، فقبل الصلاة بقليل تغلق الطرقات من قبل رجال المرور لأن المساجد تمتلئ بالمصلين، فيتم إيقاف السيارات ويفترش المصلون الشوارع الاسفلت حتي تنتهي الصلاة وتعود الحركة لما كانت عليه وخاصة في مسجد الأنور في مركاتو ومسجد النور (بنين) سابقا ومسجد التوفيق بالقرب من فندق الشيراتون في منطقة امبسادور.
ويقول اجبو محي حسن من سكان العاصمة الإثيوبية إنه زار عدة دول إسلامية فوجد أن الإثيوبيين يتميزون بعدد من المظاهر الإسلامية وخاصة في العاصمة أديس أبابا ولا توجد إلا في بلادنا، مثل التجمع في موقع واحد لأداء صلاة العيد وصلاة الجمعة وبعض الاحتفالات الدينية الإسلامية، وهذا من الأمور التي تجعلنا فخورين ببلدنا وتراثنا.
ويقول تمام خضر: هنالك كثير مما يميز الإسلام في إثيوبيا ذات التعددية الدينية، ففي الاحتفالات وصلاة العيد نؤدي الصلاة مجتمعين في الاستاد الدولي وفي الطرقات العامة، ونتميز بارتداء ملابس خاصة كالجلباب والطاقية والعمامة، وحتى أثناء العمل وفي دواوين الحكومة وهذا لما نجده من حريات دينية في هذه البلاد وتستطيع أن تعرف المسلم من غير المسلم من أول نظرة.
..ومؤسسات لشؤون المسلمين
للمسلمين في إثيوبيا مؤسسات عامة وخاصة تتحدث باسمهم، فهنالك المحكمة الشرعية التي تهتم بشؤون المسلمين وقضاياهم، وهنالك المجلس الأعلي للشؤون الإسلامية، وهو الجهة المنوط بها رعاية قضايا وأحوال المسلمين في إثيوبيا، إلى جانب هيئة علماء أديس أبابا ومؤسسات أخرى.
وكذلك هناك مراكز إسلامية مشهورة لتعليم القرآن في مختلف المدن الإثيوبية وتعتبر إرثا إسلاميا فريدا، وهنالك مراكز ساعدت على نشر الدعوة الإسلامية في إثيوبيا مع تزايد الأعداد مثل مسجد الأنور الشهير في ضاحية مركاتو بوسط أديس أبابا والذي يعتبر من المعالم الإسلامية الجميلة وسط أديس القديمة التي تضم مراكز ثقافية ومكتبات دينية ومحلات لبيع الكتب الدينية.
وهنالك الكلية الأولية التي بها كلية ومسجد ومدرسة ودار للأيتام ومركز صحي، وهي من المؤسسات التي كانت تتبع لهيئة الإغاثة الإسلامية ثم تحولت تبعيتها للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
ويعد معهد النور والمدرسة الجديدة في مدينة ديري داوة شرق إثيوبيا من المدارس الأكاديمية النموذجية، وفي أقصى الجنوب الغربي من العاصمة أديس أبابا في مدينة بالي التاريخية الإسلامية هناك المدرسة السلفية ومعهد قوندي لتدريب المعلمين ومدرسة الخلفاء الراشدين في مدينة اداما في ولاية اروميا، كما يعد مسجد النجاشي وضريح الصحابة في إقليم تقراي من أبرز المعالم الإسلامية.
ولا تنطبق مسألة التعايش الديني على غير المسلمين، بل تمتد إلى ما بين المسلمين أنفسهم باختلاف مذاهبهم، حيث كان طلاب العلم يذهبون للأزهر بمصر والمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية وجامعة أفريقيا العالمية بالسودان لتعلم العلوم الإسلامية.
تكافل وتعايش وحسن جوار
إثيوبيا من أكثر البلدان التي وفدت إليها الهجرات الدينية كاليهودية والمسيحية والإسلام، واستقبلت أرضها كل الأديان السماوية، وقد جعلت الهجرات المتعددة لهذه البلاد شعوب المنطقة تتقبل الآخر ويعيشون مع بعضهم البعض ويهنئون بعضهم البعض في كافة المناسبات الدينية حتي داخل الأسرة الواحدة تجد النصراني والمسلم، في نموذج فريد من التعايش الديني.
وينص الدستور الإثيوبي في الفصل السابع والعشرين المادة الأولى على أن لكل فرد حرية اختيار المعتقد والفكر الذي يراه مناسبا ويؤمن به، وهذا يعطي الإثيوبيين اعتناق كل الأديان والمساواة بين أتباع الأديان المختلفة.
ولذلك فإن إثيوبيا لم تعرف في تاريخها الطويل الحروب الدينية، إذ تجد في المنطقة الواحدة مسجدا وكنيسة متجاورين مثل منطقة مركاتو التي يتجاور فيها مسجد الأنور وبجواره كنيسة راقوئيل منذ فترة طويلة، وفي بعض الولايات تجد المسيحي والمسلم يعيشان مع بعضهما البعض بل يتشاركان في التجارة والعمل والصداقات.
تقول السيدة وندموا: أنا مسيحية وأعمل مع مجموعة من الإخوة المسلمين في مكتب واحد منذ فترة طويلة وأجد كل الاحترام منهم، ودوما ما يتواصلون معي في كافة المناسبات والأفراح ويهنئونني في كل أعيادي ونحن في إثيوبيا نحترم معتقدات بعضنا البعض.
ويشير محمد اباقارو إلى أنهم يتشاركون الفرحة مع المسيحيين في الأعياد الدينية، ويقول: نرى أشياء تبعث على السرور، حيث يفرح المسلم في أعياد المسيحيين ويهنئهم ويتبادل معهم الأفراح والتواصل ويأكل معهم طعامهم ويشاركهم الفرحة، وكذلك المسيحيون يهنئون المسلمين في أعيادهم ويفرحون معهم لأفراحهم ويحزنون لأحزانهم، مضيفا أنه عندما يفقد أحد الأطراف إنسانا عزيزا فتجد أقرب الجيران من يقف إلى جواره في الأحزان من الدين الآخر، وفي بعض الأحياء الشعبية تجد الأسر تتعايش داخل فناء منزل واحد وهنالك من هو مسيحي ومسلم.
السيدة تقدم انداشاو تقول: أعتقد أن ما يوجد في إثيوبيا من تعايش ديني أفضل بكثير من البلدان الأفريقية الأخرى، ونحن نعتبر الأفضل بين إخوتنا الافارقة، وهنالك العديد من حالات التزاوج بين المسلمين والمسيحيين، ونحن في إثيوبيا نحترم جميع الأديان السماوية ولدي عدد كبير من الصديقات المسلمات.
ميمونة طالبة في جامعة اواسا في جنوب إثيوبيا تتحدث وهي تتذكر لحظات محددة وتبتسم وهي تقول: كنا نعيش في داخلية فيها مسلمات ومسيحيات، وكان أول عيد أضحى أقضيه بعيدا عن الأسرة، وفي بادئ الأمر حزنت كثيرا ولكن بعد لحظات وجدت الطالبات يقمن بتجهيز أطعمة مختلفة وشاي وقهوة وأعدوا كل شيء للاحتفال بالعيد معي كي لا أكون وحدي وأشعر بالحزن، وقضيت معهم يوما لا أنساه أبدا حتي إنني نسيت أسرتي وحزني وهذه من المواقف التي لا أنساها أبدا.
وفي رحلة سابقة لي في رمضان من العام ٢٠٠٦ ما بين أديس أبابا ومدينة قندر في شمال إثيوبيا والتي تقدر بأكثر من سبعمائة كيلو متر وحوالي اثنتي عشرة ساعة بالسيارات، كنا أربعة مسلمين بين خمسين راكبا وحان موعد الإفطار، ونحن في منطقة نائية تبعد عن العمران، فإذا بركاب الباص يخرجون كل ما يملكون من عصائر ومياه وأطعمة، وبعضهم يقول باللغة الأمهرية معنا مسلمون وقد حان وقت إفطارهم ولا بد أن تخرجوا كل الأطعمة.
وكانت من الذكريات التي لا تنسي أبدا .
ويتحدث عدد من الأفراد في اثيوبيا عن قصة معروفة حدثت في العام ١٩٨٥م في مناطق ولو في شمال إثيوبيا إبان فترة الجفاف والمجاعات التي ضربت إثيوبيا، واضطرت الغالبية إلى الهجرة للسودان، فهاجر معظم المسيحيين وكان من عادتهم أن يحملوا معهم التوابيت الكنسية عند هجرتهم من منطقة لأخرى، ولكن مسلمي تلك المنطقة كانت حالتهم المادية والاقتصادية أفضل من غيرهم فقرروا ألا يتم ترحيل الكنيسة لأنها تمثل جزءا من إرث المنطقة، وأن تظل مغلقة كما هي وكانوا يصرفون ويقدمون الإعانات للقساوسة والرهبان الذين جلسوا لحراسة هذه الكنيسة، ضاربين نموذجا في التعايش الديني أصبح يذكر في كل المحافل.