محمد أحمد بابا

عاشق الشاة!

الاثنين - 10 أكتوبر 2016

Mon - 10 Oct 2016

قبل عقدين ونصف كنت أعمل في شركة الكهرباء بمكة المكرمة قارئا للعدادات وموزعا للفواتير، بالإضافة إلى متابعتي لدراستي الجامعية.



في أحد الصباحات صعدت جبل عمر أجر خطى في طرق لا يسلكها إلا من يسكن هذا الحي أو من كتب الله عليه أن يعمل في قطاع يحشر أنفه في كل شبر من الأرض كقطاع الكهرباء، وحين وصلت لباب حديدي مسجل عليه ذات الترقيم الذي أحمله في يدي لفاتورة كهرباء يجب تسلميها مع قراءة العداد وتسجيل «مقدار الاستهلاك» طرقت الباب.



فتهادى إلى سمعي صوت من بعيد لفتاة لم تتجاوز العاشرة -حسب تقديري- تنادي: «مين؟ فانطلق لساني -دون انتظار- بإجابتي: كهرباء»، ومن العادة يفتح الباب ويدلني من يفتحه على موقع العداد الذي غالبا ما يكون تحت «الدرج» في هذه الأحياء العتيقة، ولكن الأمر طال ولم يفتح أحد ولا جاءني المجيب.



طرقت للمرة الثانية وانطلق ذلك الصوت الذي تأكدت بأنه صوت نسائي يقول: «مين؟ فأجبت وأنا أتحلى بالصبر المصطنع: كهرباء»، ورفعت من نبرة صوتي لعلي أبلغهم بأن الأمر هام وعاجل، ولكن السيناريو تكرر وطال الانتظار ولم يأت مخلوق، فطرقت الثالثة ورد علي في شكل تقني منتظم نفس الصوت:



«مييين؟ وقلت وأنا ألوي بوزا وأقرض الآخر «كهرباء»، وانتظرت فلم يحدث شيء مما أتوقعه ولا تحرك ساكن من محله.



كانت في الباب فرجة تشعرني بأنه ليس مغلقا بإحكام، فتجرأت على فتح الباب ليكشف اليقين مما انتاب قلبي في استغراب مختلط بغضب.



أزحت دفة الباب متربصا قائلا: «كهرباء» فانطلق صوت «جفرة من الماعز» تصيح «مااااء»، وفي لحظتها عرفت بأن الكلمة التي سمعتها ثلاث مرات وأنا لابس ثوب الحلم والأدب كانت «مااااء» وليست «مييين»، وأن الإجابة كانت من حيوان يصيح بما لا أفهمه، وليس من بنت ولا امرأة ولا إنسان حي.



ضحكت على نفسي كثيرا، وتأكدت بأن هذا المنزل مهجور منذ زمن وأصبح مرتعا لأغنام الحي، وأنني وقعت فريسة التصور المسبق الذي ربما سيصور لي -يوما- الطائرة جرذا والشمس حلاوة عيد، ولكن القراءة لعداد هذا البيت الخالي إلا من «أنثى ماعز» لا تستخدم الكهرباء مرت بسلام ووجدتها لم تتحرك عن الرقم السابق المسجل لدي في الكشوف الرمادية التي أحملها، فأودعت الفاتورة في أنف العداد وابتسمت وكتمت ضحكي حتى لا يتهمني أحد بالجنون الرسمي الكهربائي.



بحثت لنفسي عن مخرج يجعل الموقف الذي مر بي «يحصل في أكبر العائلات»، كما يقولون فلم أجده سوى سوى قصة أستظرف بها عند زملائي.



وفي سنين خلت تأذيت أشهرا من قطط اعتادت السكن في سطح غرفة خارجية بمنزلي، وتعبت حتى أقنعت ابني بطردها، لأن أباه يخشى القطط خشيته من البحر، وتأكدنا بأن العملية نجحت، ولكني ظللت أسمع صوت أنين قطة صغيرة يصدر تباعا من سطح الغرفة، فحزنت وبكيت وتأثرت أن كنت وابني سببا في الفرقة بين أم وابنتها.



صعد ابني للسطح ولم يجد شيئا والصوت يتكرر والحزن، وحين زارني صديق حكيت له القصة وجلسنا في نفس الغرفة وأسمعته الصوت فاتجه مباشرة لجهاز التكييف وأغلق «زرا» خاصا بتوزيع الهواء وانقطع أنين القطة وانفجر صديقي ضاحكا على توهمي، وحق له فكيف برجل يظن بأن صوت احتكاك «ريش» توزيع الهواء في المكيف أنين قطة؟



اليوم تذكرت شيئا قريبا من هذا في كتب التراث فرجعت إلى «طبقات الشعراء لابن المعتز» ووجدته قد قال: «مر مصعب الموسوس بدرب الثلج ببغداد فنظر إلى عين شاة من شباك روشن إلى الطريق لبعض التجار فظن أنها عين جارية، فعشقها وظل يتردد إلى ذات المكان شهرا»، وقال ابن المعتز أيضا:



«إن مصعبا كان يقول شعرا ويسمعه للشاة وهو يظنها جارية ويرمي لها بالتفاحة والأترجة والشمامة والتحفة الحسنة من المناديل، فانكسر الشباك يوما فإذا هي عين شاة فرآه الصبيان وأصبحوا ينادونه يا عاشق الشاة».



تنفست الصعداء حينها وقررت كتابة هذا المقال.



[email protected]