جاستا الاستنزاف..

الأربعاء - 05 أكتوبر 2016

Wed - 05 Oct 2016

في علم الحروب هناك ما يعرف بسياسة الاستنزاف التي لا تعدو كونها استراتيجية حربية يعمد خلالها أحد أطراف الحرب لإضعاف الخصم عن طريق استنزاف قوته العددية أو «السلاحية» أو الصحية والغذائية، وصولا لنقطة الانهيار. حينها تكسب الحرب الجهة ذات الموارد الأكبر بأقل جهد. وفيما يتواجد عنصر الاستنزاف بنسب مختلفة في جميع أنواع الحروب وما تخلفه من خسائر في الموارد والأرواح، إلا أنه لا يمكن القول بأن أحد الخصوم اعتمد استراتيجية الاستنزاف إلا في حال كان الهدف الأول والأخير من تلك الحرب استنزاف العدو تدريجيا حتى يسقط، عوضا عن الاحتلال السريع لمساحة جغرافية أو توجيه ضربة مفاجئة.



وبالعودة إلى التاريخ نجد أنه قد درج اللجوء لعنصر الاستنزاف كحل أخير في حال فشل تكتيكات الحرب الأخرى المعروفة باستخدام عناصر، مثل المحادثات والمباغتة وقوة السلاح. حينها يكون الطرف المهاجم ـ المتفوق في العدد والعدة بديهيا ـ لم يتبق لديه سوى الحد الأدنى من الموارد التي يتحتم عليه الحفاظ عليها إن كان يطمع بأي نصر فليلتزم الحذر والخديعة، بينما يهدر العدو موارده حتى يضعف ويصبح من السهولة تفكيكه واختراقه وإسقاطه. هذا في حال لم يعلن استسلامه ويقدم النصر للمستنزف على آخر طبق من فضة يملكه.



وبالحديث عن استراتيجية الاستنزاف نظريا وتاريخيا أود الوصول إلى حاضر العلاقات الدولية، وتحديدا العلاقة بين الشرق والغرب، والتي أخذت منحى منحدرا أو أكثر انحدارا ـ إن صح القول ـ منذ ما يسميه الغرب بـ»الربيع العربي»، وما يسميه الشرق بـ»الربيع العبري»، أو «الخريف العربي»، لا تشكيكا في شرعيته، وإنما كان دخول أمريكا على الخط مع انقسام العرب كفيلا بـ»قلب عاليه واطيا»!



بدأت أمريكا بدخول العراق تحت ذريعة انتهاك العراق للقانون الدولي الذي تضعه أمريكا بنفسها وتنتهكه وتحاكم غيرها به، ولكن أمريكا تبقى أمريكا، وهل يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون! ومن الواضح أن أمريكا كانت قد بيتت النية لاجترار تجربة العراق على العالم العربي بمجمله، لكن شاء حظها أن تصبح لتجد أن تونس قد انتفضت وانفرط عقد اللؤلؤ العربي الأصيل لتنتفض ليبيا فمصر فسوريا فلبنان فاليمن، وكأن العالم العربي ابتسم لأمريكا ذلك الصباح الطويل وحياها بـ»صباح الخير يا مدلل»، فكان في مصائب أقوام فوائد قوم، ووجدت أمريكا في استبداد الحكام وعصب العربان وانقسامهم أفضل ثغرة تدخل منها بقناعها الديمقراطي ذي الابتسامة الصفراء.



دخلت أمريكا وتحالفت مع سذاجة العرب ضد العرب، وشعارها «اضربوا في بعض ونحن ندعمكم»، وصدى الشعار «حتى نفنيكم»، ولكن «مين يسمعك يا صدى؟». ثم جاء دور الشقيقة الكبرى، والتي هي ممسكة العقد، لكن تبقى لأمريكا معها مصالح اقتصادية بعد أن تمكنت من الاستراتيجية. وهنا وجدت أمريكا لنفسها بديلا نفطيا ـ مع ضمان استمرار اعتماد الشقيقة الكبرى على السلاح الأمريكي بإحاطتها بالاضطرابات ـ فرفعت العقوبات الاقتصادية عن إيران وتصالحت معها، وزعمت أن هناك اتفاقا متقنا وأن إيران ستحترمه! وهبطت أسعار النفط تباعا، فقد زادت مصادره ورفضت إيران تجميده بهدف رفع سعره، لأنها مستفيدة من دخله ـ ولو قل ـ وبهدف خسارة السعودية من ناحية أخرى.



إلى هنا هل تتبعتم ملامح استراتيجية الاستنزاف؟ ابتداء بتمويل الميليشيات وإدراج الخليج في تحالفات عسكرية لاستنزافه عدديا وماديا وإبادة باقي العرب ـ عصفورين بحجر واحد ـ، ومرورا بالصلح مع إيران والاستغناء عن النفط السعودي، وانتهاء بقانون جاستا المفتعل الذي خرج لنا فجأة بعد أن أصبحت حادثة الحادي عشر من سبتمبر نسيا منسيا لاستنزاف ما تبقى من قوانا والوصول لبداية هذا المقال. فهل فات الأوان ليكون لنا في التاريخ عبر؟



[email protected]