بيت رقيَّة!

السبت - 01 أكتوبر 2016

Sat - 01 Oct 2016

ما زلتُ، رغم مرور سربٍ طويل من السنين، أذكر أنَّه لا امرأةً ينطبق عليها أنَّ وجهها كالقمر مثلها. كان وجهها مستديراً كقرصٍ من نورٍ بقيت منه بقيَّة رغم وعثاء السنين، لعلَّها بعض علامات التقوى الذائبة في تلك النَّفس المؤمنة الأمينة. وكنت رغم تضايقي من وظيفة «المرسول» إلى الجيران، أسعد بأيَّة مهمَّة إلى دارها محمَّلاً بشيء أو ناقلاً دعوة إلى لقاءٍ نسائي. لم يكن عدد تلك المهمات قليلاً، ومع ذلك فلا أذكر أنّي سمعت صوتها بنبرةٍ غير أرقِّ الهمس الذي كانت تردُّ به. ولم تكن العودة من بيتها خالية من قليلٍ جميل تضعه في يدي من نقود أو بعض من «الكيك» والبسكوت الذي كانت تصنعه والذي كان غريباً إلى حدٍّ ما عما اعتدنا عليه في مجتمع الحارة.



كان بيتها بعيداً نسبيَّا عن بيتنا في تلك الحارة الهادئة المختلطة العمران. فهي ليست من أحياء المدينة المنوَّرة القديمة بل من أحدثها، لكنها اتَّبعت نفس نمط طرقاتها، وتفاوتَت المباني في مساحاتها وأدوارها وموادِّ بنائها. أنعطفُ إلى اليسار عبر الزقاق الأوسع، زقاق الشيخة، حيث كان كتَّابٌ للبنات وفي آخره أنعطفُ يميناً ليكون بيتها في المقابل على حافَّة الحارة الأخيرة التي كانت علامتها شجرة طرفاء كبيرة. كان البيت بسيطاً جدَّاً، وأنيقاً جدَّاً.. ونظيفاً لدرجةٍ لا تُوصف. وأحسبني أستطيع رسم مخطَّط البيت بدقَّة حتى اليوم. هناك فناءُ مدخلٍ مكشوف يُفضي إلى صحن الدار وإلى اليمين غرفتان الأولى للضيوف والثانية للمعيشة، وفي ركنٍ منها ماكينة للخياطة.



وفي صدر الممر المطبخ الذي كان يمتدُّ ليطلَّ إلى الخارج عبر جزءٍ تمَّ تحويله لفترةٍ محدودةٍ لدكَّان كان يقضي فيها عم موسى بعض وقته يبيع بيسرٍ لا يصلح مع التجارة، وأفلَست الدكان بعد قليل من افتتاحها بسبب البيع الآجل الذي مارسه بطيبة قلبه. وإلى اليسار كانت حديقةٌ أنيقة منسَّقة تنسيقا بديعا، تحتلُّ الورود مكاناً واضحاً فيها. ووسط الحديقة سلَّمٌ خشبيٌّ إلى السَّطح حيث غرفةٌ وحيدةٌ كان ابنها الأكبر يستأثر بها. كان لها عدَّة بناتٍ، ورغم صغري وما يعنيه من إمكانيَّة التَّسامح معي، شاهدت أمثلةً له في بيوت أخرى في الحارة إلا أني لم ألعب مع أيٍّ من بناتها رغم تقارب السنِّ مع بعضهن. وكان لهنَّ أخوان، إسحق الذي أصبح صديقاً في مرحلة تالية من العمر، والذي كان نفسه حكايةً كتبتُ عنها حين عُجِّل به إلى الدار الأبقى، وإلى أخٍ أصغر لم تُجْدِ كلُّ المبرِّرات لإعطائه الجنسية، وهو من لايعرف إلا هذه الأرض حبَّاً وولاءً...



ظلَّ بيتها لسنين مثالاً للجمال والنَّقاء. والغريب أنَّها السيدة الوحيدة في الحارة التي لأمرٍ ما، لم تستخدم النسوة معها كنية، ولا لعمِّ موسى زوجها إشارة. وكان «بيت رقيَّة» علماً باسم سيِّدته «رقيَّة». هاجرَت من الصين مع أخويها وبعض أهلها قبل ما يقرب من قرنٍ في رحلةِ معاناةٍ عبر الجبال والصَّحارى. وأكرمهم الله بخير جوارٍ في المدينة المنورة. وعرفتُ فيما بعد أنّ علاقتها الممتلئة روحانيةً ومحبَّةً بأمِّي تمتدُّ إلى ما قبل سكننا في باب العوالي، وأنَّ جواراً جميلاً ضمَّهم لسنواتٍ في حارة باب المجيدي. ولم تنقطع تلك العلاقة أبداً حتى حينما تباعدت الدور. وحين رحلت أمِّي كانت رقيَّة من أخلص من وقف مودِّعاً وباكياً.. حين اشتبكت دموعٌ في خدود.



تزوجت رقيَّة من شخص وقور يكبرها بسنين طويلة. وعاشت معه راضيةً مرضيَّة. ومع محدوديَّة ذات اليد وربَّما تخفيفاً على عم موسى زوجها، قبلت نصيحة أمِّي بإلحاق أخويها في مدرسة دار الأيتام التي كانت علامةً إنسانيَّةً مضيئةً تُقدِّم العِلم والرِّعاية. وكانت رقيَّة تبادر ما استطاعت لتطلَّ من الرُّوشان الأعلى من بيتنا على طلاَّب المدرسة وهم يتّجهون كلَّ أسبوعٍ إلى الملعب، وتنادي أخويها لتقضي معهما لحظات أمومةٍ لا أحنَّ منها.



وفي المرَّات التي تغيب، كانت أمي تقوم بدورها حيال الأخوين مادَّة ما استطاعت من عطفٍ وقليل زاد. الجدير بالذِّكر هنا أن الأخوين أكملا دراستيهما وبلغا أعلى الدرجات العلميَّة. أما عم موسى فهو رجل ممَّن سلم المسلمون من لسانه ويده. هادئ النفس أجشُّ الصوت قليلاً، يمشي في سكون إلى الحرم، ويعود حاملاً القفَّة المليئة حيناً والخاوية أحياناً. عاش على هامش الدنيا مؤثراً الأخرى أيَّما إيثار، ورحل في صمتٍ لم يحس به إلا من عرفوا وقْع روحه.



التحق ابنها بجامعة الرِّياض، وبعد حوالي عامٍ كان عليه أن ينتقل بوالديه وإخوته إليها. وتحمَّل مسؤوليته بأمانةٍ تامَّة، أكملَت فيها أخواته وأخوه الأصغر الدراسة. وقد أحدث انتقالهم المؤقت إلى الرياض شيئاً جميلاً، ربَّما ليس في حياتهم بقدر ما في حياتنا، نحن زملاء إسحق، وخاصةً أنا ابن من تُكنُّ لها رقيَّة كلَّ حب. وكانت زياراتنا إليهم في عمارة العنبرية بالبطحاء نقطة تلقِّي كرمٍ أصيل فرَّج علينا بعض غربة وزادنا بضع أهل. وكانت الشُقَّة، كبيت المدينة، نموذجاً في حسن الترتيب ووهج النظافة وأنفَة الاعتداد.



يوم أنهى إسحق دراسته الجامعية عاد بأهله وبنفسه إلى المدينة المنورة، في برٍّ مثالي. ودارت الأيام ككثير من الحكايات.. وعاشوا في سبات ونبات، وأنجبوا صبياناً وبنات. وحين رحل سندها وابنها الأكبر ذرفَت عليه ما استطاعت من دمع، وما لم يتوقَّف من دعاء، مكملةً حياتها متذرعةً بصبر المؤمن ويقينه.



كان ذكر رقيَّة وبيتها مما لا تخلو منه أيُّ جلسة استحضار للذِّكريات. وكنت أسعد بما يصلني من أخبارها ومنها أنَّ الدنيا قرَّرت أن تبتسم لهم بعد طول عناء. وجاء مشروع توسعة المسجد النبوي بتعويضٍ كان كافياً لأن يعد بكثيرٍ من الفرح. وفي خضمِّ ذلك، جاء النَّذير بما باغت رقيَّة فجأة واستلَّ صحَّتها قليلاً قليلا. وكردٍ على الموت بالموتِ، جاءني خبر وفاتها وأنا خارج المملكة. تقمَّصني الحزن في هدوء.. وابتعدت عمَّن معي أسكن إلى لحظة دمع.. وحين التفتُّ كان أمامي بيتٌ أبيض صغير أنيق.. كـ «بيت رقيَّة».