من الفقر إلى الحرمان

لا تكاد تمر مناسبة إعلان الميزانية السنوية للمملكة -التي أعلنت قبل أسابيع قليلة - إلا ويأتي معها الحديث عن حالات من الفقر سواء في المناطق الشمالية والجنوبية النائية أو حتى داخل المدن الرئيسية للمملكة.

لا تكاد تمر مناسبة إعلان الميزانية السنوية للمملكة -التي أعلنت قبل أسابيع قليلة - إلا ويأتي معها الحديث عن حالات من الفقر سواء في المناطق الشمالية والجنوبية النائية أو حتى داخل المدن الرئيسية للمملكة.

الأربعاء - 15 يناير 2014

Wed - 15 Jan 2014



لا تكاد تمر مناسبة إعلان الميزانية السنوية للمملكة -التي أعلنت قبل أسابيع قليلة - إلا ويأتي معها الحديث عن حالات من الفقر سواء في المناطق الشمالية والجنوبية النائية أو حتى داخل المدن الرئيسية للمملكة. ولاشك أن الفقر بشكل عام ظاهرة تهدد الرخاء الاقتصادي والأمن وتحرم شريحة واسعة من شروط الحياة السعيدة، إلا أننا في نفس الوقت نرى الفقر من منظور أعتقد أنه قاصر ومحدود ورقمي إلى حد كبير. حيث يعتقد على نحو واسع أن مجرد ضخ كثير من الأموال في حسابات الفقراء كفيل بحل مشكلة الفقر وتحسين المستوى المعيشي. فهل الفقر مجرد نقص الدخل السنوي تحت خط معين؟ أم أنه قد يشمل مظاهر حرمان أخرى؟ وهل يمكن محاربة الفقر والتخلص منه للأبد -من حيث المبدأ- أم لا؟



يطرح العالم الاقتصادي الهندي أمارتيا سن الفائز بجائزة نوبل 1998 نظرة جديدة أو زاوية بعيدة في معالجة الفقر تجيب عن مثل هذه الأسئلة. حيث يشير في كتابه «التنمية حرية» إلى أن الفقر يجب ألا ينحصر على الحرمان من الدخل فحسب، بل يجب أن يشمل مظاهر أخرى من الحرمان فيما سماه «الحرمان من القدرة» بمعنى القدرة العقلية والجسدية على أداء المهمات. ولهذا التمييز بين الحرمان من الدخل (الفقر العادي) والحرمان من القدرة (الفقر الحقيقي) عدة أبعاد «أرى من المفيد أن أشير إليها سريعا». فالعلاقة مثلا بين الدخل والقدرة تختلف بحسب الجنس والعمر والمكانة الاجتماعية، فمثلا رجل فقير بعمر ٢٥ سنة ليس مثل رجل فقير بعمر ٧٠ سنة أو امرأة فقيرة بعمر ٣٠ سنة في مجتمع ذكوري يستنقص عمل المرأة، فالأول لديه مخزون أوسع بكثير من القدرات العقلية والجسدية من النموذجين الآخرين. وهناك بعد آخر متعلق بالأثر البعيد لفقر الدخل على الأداء الوظيفي. فالإعاقات مثل العمر أو العجز أو المرض يمكن أن تضعف من قدرة المرء على اكتساب الدخل، ولكنها أيضا تفاقم من صعوبة تحويل هذا الدخل إلى قدرة حيث إن الكهل أو العاجز أو المريض يمكن أن يكون بحاجة إلى دخل أكبر لكي ينجز الوظائف نفسها. فالحرمان من القدرة (أو الفقر الحقيقي على حد تعبير أمارتيا سن) يمكن أن يكون ذا آثار عميقة جدا لا تظهر في الدخل، كما أنها تعيد النظر لتقدير النشاط اللازم في الإنفاق على المرافق العامة المعنية برعاية المرضى والمسنين، وبعد آخر كذلك متعلق بالمكان، فالحرمان النسبي من حيث الدخل يمكن أن يؤدي إلى حرمان في القدرات، بمعنى أن الفقير في بلد غني قد يكون غنيا في بلد آخر فقير، ولكنه من حيث القدرات سيظل فقيرا كذلك.



هذا الطرح عن الحرمان من القدرة ذكرني بدراسة موسعة عنوانها «الفقر يعرقل الوظائف الإدراكية» نشرته مجلة سينس في عدد أغسطس 2013. حيث توصل باحثون عبر دراستين مستقلتين إلى أن الفقر بحد ذاته يسبب عرقلة للعمليات الإدراكية. وقد استخدموا في الدراسة الأولى استبيانا وطلبوا من عينة متنوعة الإجابة عن أسئلته المتعلقة في الغالب بمشكلات اقتصادية محدودة. واستخدموا في الدراسة التالية استطلاعا واختبارات قياسية أجروها على مئات المزارعين في إحدى المناطق الهندية قبل وبعد الحصاد. وكانت النتيجة النهائية لهاتين الدراستين أن أداء المشارك الفقير كان أقل بشكل ملحوظ من أداء الأغنياء أو المكتفين ماديا. وهذه بالطبع ليست سوى دراسة واحدة من دراسات كثيرة تتناول أثر ظاهرة الفقر بما تحمله من آثار كالضغط والقلق والخوف على السلوك والقدرات المعرفية. وربما يعود السبب إلى أن المخاوف المتعلقة بالفقر تشغل حيزا كبيرا من الموارد العقلية مما يترك هامشا محدودا للوظائف الأخرى.



لعل هذا التمييز بين فقر الدخل وفقر القدرة يعيدنا إلى نقطة البداية للإجابة على كثير من الأسئلة. هل الفقر ظاهرة اقتصادية فحسب أم أنه ظاهرة ذات أبعاد عديدة ومتداخلة؟ وهل ضخ المليارات من الميزانية السنوية للمملكة لعلاج مشكلة كالفقر كفيل بحل المشكلة أم أننا بحاجة إلى توسع في دراسة شروط الفقر وعلاقته بالقدرة على العمل والإنتاج والدراسة وغيرها؟



في المجمل، لا شك أن دراسة العلاقة بين الحرمان من القدرة وبين البطالة والجريمة وغيرها من المشكلات قد تتجه بنا نحو آفاق جديدة للنظر لهذه المشكلات وللحلول المطروحة لها، وكذا يأتي السؤال: ما هي العلاقة بين فقر الدخل والحرمان من القدرة؟ لا يوجد جواب واضح، لكن هذا السؤال يستحق من العناية الكثير، فعلى ضوئه يمكن أن ترشد سياسات مكافحة الفقر وتحسين الشروط المعيشية.



 



 



 



طالب سعودي مبتعث لدراسة الماجستير في الولايات المتحدة الأمريكية