قبل خمسة عقود حجت أمي
الجمعة - 09 سبتمبر 2016
Fri - 09 Sep 2016
كنت طفلا لا أحسن حتى الكلام، ولكني أملك ذاكرة تفوق مشاعر التاريخ.
وكان اليوم الموعود قد حان في حي (البديع)، ببلدة أبها، والأطفال يتجمعون من كل الزوايا، ليشهدوا بعجب خروج شاحنة الفورد الحمراء محملة ببعض من نووا الحج في ذلك الموسم، حتى إني لم أستوعب أن تكون أمي أحد من يركب معهم في صندوق الشاحنة برفقة أخي الأكبر، وأن يتركونا في البيت أطفالا برعاية الجيران، وخالي، الذي يعمل جنديا في (القشلة)، العسكرية الواقعة بين باحة السوق، وحي (البِحار).
تودعنا أمي بنصائحها، وتكثر من تقبيلنا قبل انطلاق الشاحنة النادر وجود مثلها، والأطفال يتبعونها، ويقلدون صوتها، وينثرون الصرخات، والتعليقات، ويلوحون للحجاج الراحلين لزيارة بيت الله العتيق، وإتمام فريضة الحج.
كانت الرحلة كما سمعنا شاقة، تمر في دروب غير معبدة، وتعبر وادي بن هشبل، ثم تخترق صحراء بيشة، متجهة إلى جبال الحجاز، في مسار متعرج مجهد يحتاج حوالي عشرة أيام، فكان راكبو الشاحنة يحملون معهم تيوسا يذبحونها على مراحل، ويعلقون ما يتبقى منها على أطراف الشاحنة. وكانوا يحملون معهم قرب ماء يعلقونها على جوانب الشاحنة، ويعاودون تعبئتهما كلما مروا حول مضارب بدو، أو بئر قرية.
كان السائق يجلس في غرفة القيادة مسيطرا، وبجانب يده اليمنى (المعاون)، يرصد له الطريق، ويزود الشاحنة بالوقود، ويسارع بالنزول وإبعاد أي عائق قد يقابلهم، ويحدد المسار بدقة حين الرجوع بالشاحنة إلى الخلف.
لم تكن أمي مختارة في أدائها للحج، بقدر ما كانت خارجة من فترة حداد على والدي، رحمهما الله، فتعنت لأداء فريضة الحج عن نفسها، طالبة الرحمة والمغفرة لمن فارق دنياها، وترك لها مسؤوليات عظيمة.
وتمر أيام الحج علينا صعبة وأختي الكبرى ترعانا، وتحاول رغم غضاضة سنها القيام بالمطلوب في بيتنا وحياتنا، وكان أكبر همها إيقاد (الأتريك)، قبل حلول وحشة الظلمة، في ليل أبها الطويل البارد.
أيام عسيرة يأتي بعدها قريب لنا كان يسكن أطراف البلدة، ويحملنا معه إلى بيته، نظرا لما لمسه من حياة منتثرة في بيت بلا أم.
وتمر الأيام طويلة، ويأتي العيد، ونحن نتردد بين بيتنا، وبين بيت قريبنا، لكي لا يعود الحجاج فلا يجدوننا.
وبعد عدة أسابيع تباغتنا الشاحنة كالحلم، وتحملني الأيدي بفرح، وتضمني والدتي بدموعها، وهي تحاول التأكد من عبوري لفترة غيابها دون ضرر.
المنظر في حينها كان حميما، فالأطفال يدورون بشقاوتهم وفضولهم، والشباب يساعدون السائق في تنزيل أحمال السيارة، والنساء يدخلن ويخرجن من بيتنا محملات بالقهوة والشاي والزبيب وأقراص الخبز، والعسل، وأمي تشكرهن، وتعدهن باجتماع قريب تشرح لهن فيه تفاصيل رحلتها.
وبعد غياب نجلس متراصين مع بقية أطفال الحي في حجرة جلوسنا بين الأكياس، والصرر، ونشهد الحلوى المكاوية، والنعناع، و(الحمبص)، و(المضروب)، و(المشبك)، وأنواعا من البسكويت، والتين المجفف بين أيدينا، ونظل نستمع لتفاصيل الزيارة الربانية، والتي تصبح حكاية أهل حينا لفترة من الزمن.
عني أنا فقد عشقت من يومها الشاحنات، وتمنيت أن أكون سائقا لإحداها، أو معاونا يعرف ماذا يفعل في ظروف السفر العسيرة لمواسم الحج.
سقى الله ذلك الزمان، ورحم أهله الطيبين.
[email protected]
وكان اليوم الموعود قد حان في حي (البديع)، ببلدة أبها، والأطفال يتجمعون من كل الزوايا، ليشهدوا بعجب خروج شاحنة الفورد الحمراء محملة ببعض من نووا الحج في ذلك الموسم، حتى إني لم أستوعب أن تكون أمي أحد من يركب معهم في صندوق الشاحنة برفقة أخي الأكبر، وأن يتركونا في البيت أطفالا برعاية الجيران، وخالي، الذي يعمل جنديا في (القشلة)، العسكرية الواقعة بين باحة السوق، وحي (البِحار).
تودعنا أمي بنصائحها، وتكثر من تقبيلنا قبل انطلاق الشاحنة النادر وجود مثلها، والأطفال يتبعونها، ويقلدون صوتها، وينثرون الصرخات، والتعليقات، ويلوحون للحجاج الراحلين لزيارة بيت الله العتيق، وإتمام فريضة الحج.
كانت الرحلة كما سمعنا شاقة، تمر في دروب غير معبدة، وتعبر وادي بن هشبل، ثم تخترق صحراء بيشة، متجهة إلى جبال الحجاز، في مسار متعرج مجهد يحتاج حوالي عشرة أيام، فكان راكبو الشاحنة يحملون معهم تيوسا يذبحونها على مراحل، ويعلقون ما يتبقى منها على أطراف الشاحنة. وكانوا يحملون معهم قرب ماء يعلقونها على جوانب الشاحنة، ويعاودون تعبئتهما كلما مروا حول مضارب بدو، أو بئر قرية.
كان السائق يجلس في غرفة القيادة مسيطرا، وبجانب يده اليمنى (المعاون)، يرصد له الطريق، ويزود الشاحنة بالوقود، ويسارع بالنزول وإبعاد أي عائق قد يقابلهم، ويحدد المسار بدقة حين الرجوع بالشاحنة إلى الخلف.
لم تكن أمي مختارة في أدائها للحج، بقدر ما كانت خارجة من فترة حداد على والدي، رحمهما الله، فتعنت لأداء فريضة الحج عن نفسها، طالبة الرحمة والمغفرة لمن فارق دنياها، وترك لها مسؤوليات عظيمة.
وتمر أيام الحج علينا صعبة وأختي الكبرى ترعانا، وتحاول رغم غضاضة سنها القيام بالمطلوب في بيتنا وحياتنا، وكان أكبر همها إيقاد (الأتريك)، قبل حلول وحشة الظلمة، في ليل أبها الطويل البارد.
أيام عسيرة يأتي بعدها قريب لنا كان يسكن أطراف البلدة، ويحملنا معه إلى بيته، نظرا لما لمسه من حياة منتثرة في بيت بلا أم.
وتمر الأيام طويلة، ويأتي العيد، ونحن نتردد بين بيتنا، وبين بيت قريبنا، لكي لا يعود الحجاج فلا يجدوننا.
وبعد عدة أسابيع تباغتنا الشاحنة كالحلم، وتحملني الأيدي بفرح، وتضمني والدتي بدموعها، وهي تحاول التأكد من عبوري لفترة غيابها دون ضرر.
المنظر في حينها كان حميما، فالأطفال يدورون بشقاوتهم وفضولهم، والشباب يساعدون السائق في تنزيل أحمال السيارة، والنساء يدخلن ويخرجن من بيتنا محملات بالقهوة والشاي والزبيب وأقراص الخبز، والعسل، وأمي تشكرهن، وتعدهن باجتماع قريب تشرح لهن فيه تفاصيل رحلتها.
وبعد غياب نجلس متراصين مع بقية أطفال الحي في حجرة جلوسنا بين الأكياس، والصرر، ونشهد الحلوى المكاوية، والنعناع، و(الحمبص)، و(المضروب)، و(المشبك)، وأنواعا من البسكويت، والتين المجفف بين أيدينا، ونظل نستمع لتفاصيل الزيارة الربانية، والتي تصبح حكاية أهل حينا لفترة من الزمن.
عني أنا فقد عشقت من يومها الشاحنات، وتمنيت أن أكون سائقا لإحداها، أو معاونا يعرف ماذا يفعل في ظروف السفر العسيرة لمواسم الحج.
سقى الله ذلك الزمان، ورحم أهله الطيبين.
[email protected]