أنظمة الري القديمة بعين شمس

لا شك أن الماء شرط أساسي لنشوء أي حضارة وتثبيت ثقافتها وتطوير خبراتها وفق مدلول تراكم الخبرات المعرفية، وهذا واضح عند دراسة الحضارات التي نشأت على أطراف الرافدين ومصر القديمة وبلاد السند وغيرها من الحضارات القديمة، ولكن لم يكن الحصول على المياه أمرا ميسرا في بعض المناطق الجافة التي في منأى عن الأنهار والبحيرات ونحوها،

لا شك أن الماء شرط أساسي لنشوء أي حضارة وتثبيت ثقافتها وتطوير خبراتها وفق مدلول تراكم الخبرات المعرفية، وهذا واضح عند دراسة الحضارات التي نشأت على أطراف الرافدين ومصر القديمة وبلاد السند وغيرها من الحضارات القديمة، ولكن لم يكن الحصول على المياه أمرا ميسرا في بعض المناطق الجافة التي في منأى عن الأنهار والبحيرات ونحوها،

الثلاثاء - 23 ديسمبر 2014

Tue - 23 Dec 2014



لا شك أن الماء شرط أساسي لنشوء أي حضارة وتثبيت ثقافتها وتطوير خبراتها وفق مدلول تراكم الخبرات المعرفية، وهذا واضح عند دراسة الحضارات التي نشأت على أطراف الرافدين ومصر القديمة وبلاد السند وغيرها من الحضارات القديمة، ولكن لم يكن الحصول على المياه أمرا ميسرا في بعض المناطق الجافة التي في منأى عن الأنهار والبحيرات ونحوها، وعادة ما تقع ضمن الحزام الصحراوي الجاف أو شبه الجاف.

وهنا احتاج الإنسان للمياه لصناعة حضارته واستمرار نشاطه وتثبيت ثقافته في شكل تراكمي ونقلها للأجيال المقبلة، ولذا قدح الإنسان ذهنه لاستخراج المياه من باطن الأرض فابتكر طرقا مجدية لاستخراج المياه وتطوير أنظمتها، ولكن لم تكن مثل هذه النظم متوفرة لدى كافة الشعوب فبعض الشعوب تجهلها تماما وتظل تعيش دوما وفق معطيات المراعي ومستنقعات المياه غير الدائمة وما تجود به البيئة دون إعمال للذهن وهي السمة الغالبة على سكان الجزيرة العربية باستثناء بلاد اليمن والتي شهدت تطورا واسعا جدا في كيفية ترشيد المياه واستغلالها.

وظلت الآبار تسد عجزا يسيرا من حاجة الإنسان وتعتمد بشكل مباشر على الجهد البدني أو الحيواني في سحب المياه من عمق الأرض والاستفادة منها وبشكل محدود لا يتجاوز سقاء الماشية وبل الريق، وأحيانا زراعات يسيرة، ولم تظهر تقنيات إروائية راقية تسمح بالاستفادة من هذه المياه بشكل مناسب حتى بعيد الإسلام عندما تواصلت الحضارة الإسلامية مع جارتها بشكل مباشر! وهنا حصل نوع من التغيير في النظام المائي عندما جلب إنسان الجزيرة العربية تقنية المياه من بلاد فارس.

ولعل التحول الكبير في صناعة تقنية المياه بالحجاز جاء بعد أن نفذت زبيدة زوج الرشيد مشروعها الإروائي العظيم (عين زبيدة) الذي حل بالحجاز نهاية القرن الثاني الهجري، هذا المشروع الذي غير كثيرا أنظمة الري التقليدية المعتمدة فقط على الجهد البدني، فقد تمكن بعض المنتفعين من فهم هذه التجربة الجديدة وتنفيذها، وكان وادي فاطمة ووادي نعمان أول من استغل هذه التقنية لصالح الري وإن كان وادي فاطمة له العمق الأكبر في الأخذ بهذه التجربة الجديدة.

ولا بد أن يفرغ الإنسان قدرا وافرا من ذهنه للسيطرة على هذه النظم وتطويعها بما يخدم سقياه وري مزروعاته وهو ما انعكس على سكان، عدا القرى التابعة لوادي فاطمة والواقعة شرق متوسطة وهي قرية عين شمس إبان حقبتهم الإسلامية المبكرة.

ونستطيع أن نقول: إن أنظمة الري القديمة بعين شمس قد تأثرت بشكل مباشر بهذا النظام الجديد، فمن خلال خبرات تراكمية وتواصل مع أصحاب الخبرات تمكن أهل عين شمس من تثبيت مشروع إروائي مناسب لمسيرة حياتهم الزراعية، ولكن كيف وصلت له هذه النظم في شكلها المتطور؟ وهذا السؤال شديد العمق وغزير الجانب حيث يصعب تحديد زمنه بدقة ولكن لا بأس من الافتراض وفق المعطيات المتاحة.

فكرة النظام الإروائي بعين شمس تعتمد بشكل مباشر على تسريب المياه من الأراضي المعتلية ذات المياه الوفيرة إلى الأراضي الزراعية المنخفضة، ومن المؤكد أن هذه النظم لم تكن قائمة قبل العصر العباسي، فلم أعثر على أي دليل تاريخي أو أثري يشير لما قبل ذلك، وهو ما يضعنا في حيز الافتراض حتى العثور على دليل أثري واضح، ولكن وجود كسر من الفخار العباسي المتطور والمزجج المتناثر حول مصبات هذه النظم الإروائية يثبت بالدليل القاطع أن هناك حضارة ونشاطا بشريا قد حصل ضمن الحقبة العباسية المبكرة ولم تتعد إلى أكثر من ذلك، ولا توجد آثار أخرى تشير لما قبل ذلك سوى بعض الأكوام الصخرية المحاذية لهذه المستوطنات خاصة على سفح العجيفاء ولعلها أقدم ولكن ليست متواصلة معها على أية حال، ولا نستطيع الربط ما بينها وبين هذه الفخاريات، والغالب أن النشاط كان رعويا إلى حد كبير جدا في عين شمس القديمة مع استصلاح بعض الأراضي الزراعية الديمية منذ عصور مبكرة جدا، ولم تكن الثقافة الزراعية الإروائية مرتكزا مهما إلا في حالات محدودة جدا ضمن مناشط الإرواء الديمي غير المستقر.

موقع عين شمس:

تقع عين شمس القديمة شمال مكة بنحو 30 كلم ويتركز نشاطها بسفح حرة العجيفاء والزبينية حتى المرزز على هيئة حذوة فرس، وبجوارهما نشأت هذه النظم المستحدثة، ولكنها ظلت تقليدية ولم تشهد تطورا واكتفى الناس بأخذها على ما هي عليه، وظلت غامضة بالنسبة له فلم يتمكن من فك غموضها وسبر محتواها الفكري والثقافي، ولهذا نسبها لصناعة جن سليمان عليه السلام! والغريب أن الإنسان ضبط صيانتها بالفطرة وتعلم تقنيتها بالخبرة ولكنه لم يفهم كيفية ظهور الماء بهذه الطريقة العجيبة! مما أجبره على وضع تفسير تاريخي أسطوري بعيد عن الصحة.

ولقد حاولنا دراسة هذه النظم في شكلها المبدئي من الناحية الفنية عادين ذلك مدخلا فقط، حيث لا يمكن تقديم دراسة وفق منهجية بحاجة إلى أدوات لا يمكن تفعيلها في الوقت الحاضر رغم جهوزيتها ذهنيا.

ونستكمل الحديث عن الأنظمة الإروائية في حلقة مقبلة.