وليد الزامل

التخطيط العمراني من الطوباوية إلى الممارسة التشاركية

الأحد - 28 ديسمبر 2025

Sun - 28 Dec 2025



يرى Michael Sorkin أن «ظهور حركة التخطيط العمراني الجديد New Urbanism جاء كرد فعل مباشر على إخفاق الأفكار الطوباوية في التعامل مع التعقيدات المتزايدة للمجتمعات الحضرية». لقد تطور مفهوم التخطيط العمراني عبر التاريخ بفضل البحث النقدي والممارسات والتجارب التي كشفت لنا العديد من الفجوات في بناء الخطة العمرانية. في بدايات الفكر العمراني الحديث سادت تصورات يمكن وصفها بالمثالية للمدينة أخذتنا إلى منحى سطحي بعيدا عن المنطلقات التي ترتقي بالمجتمعات. انطلقت هذه الأفكار من رؤى طوباوية فردية حاولت فيه معالجة قضايا التلوث البيئي، والفقر، والتهميش الاجتماعي، والتدهور العمراني، والتي رافقت الثورة الصناعية بفرض أنماط عمرانية ولكن دون استيعاب شمولي للعوامل المؤثرة في صياغة الخطة العمرانية.

أصبحت هذه الخطط مجرد مخططات تحاكي فرضية أن تحسين الشكل العمراني يمكن أن يقود إلى تحسين جودة الحياة، وهكذا أغفلت البعد الاجتماعي، وتعاملت مع الإنسان بوصفه مجرد كائن متلق يعيش في المدينة، وليس شريكا في صنعها. بقيت هذه الأفكار جامدة لفترة طويلة، محدودة الأثر؛ بل وأسهمت فيما بعد في تكريس العزلة والانفصال الاجتماعي. كانت المدينة الحدائقية مثالا صارخا على هذه النزعة الطوباوية؛ إذ سعت إلى خلق توازن مثالي بين المدينة والريف خلال تخطيط مسبق التجهيز إن جاز التعبير، يفترض أن البيئة العمرانية المصطنعة قادرة وحدها على إصلاح المشاكل الاجتماعية المعقدة.

لقد جاء التحول في التخطيط العمراني الحديث ليطرح تساؤلا جوهريا في فهمنا للمدينة ووظيفتها، حيث لم تعد المدينة توصف كمخطط عمراني يفرض بواسطة المتخصص أو مجموعة متخصصين؛ بل هي كيان اجتماعي نابض بالحياة يتشكل ويتم تقويمه باستمرار من خلال التفاعل بين السكان والمكان. من هذا المنطق، يستحضر التخطيط العمراني مفاهيم المشاركة المجتمعية، والتنوع الوظيفي، والبيئة، والحوكمة، والاقتصاد باعتبارها عناصر أساسية حاسمة في تحقيق الاستدامة الحضرية والعدالة الاجتماعية. هذه العوامل مجتمعة تكشف لنا بجلاء الفجوة بين التخطيط الطوباوي والتخطيط الحضري الحديث. فبدلا من الاعتماد على رؤية نخبوية، يؤكد التخطيط العمراني الحديث على إشراك السكان، وأصحاب المصلحة، والمهنيين من تخصصات متعددة في عملية اتخاذ القرار. وينظر إلى المشاركة المجتمعية والممارسة التشاركية في بناء الخطة العمرانية ليس فقط كوسيلة لتحسين جودة المخرجات التخطيطية؛ بل كغاية تعزز الإحساس بالانتماء والمسؤولية الاجتماعية تجاه المكان.

إن مشاريع التطوير العقاري التي تقدم نماذج مثالية غير خاضعة لمسار التخطيط العمراني تعيدنا مرة أخرى إلى منهج الطوباوية الفردية نفسه. فلا يمكن لهذه المشاريع وحدها أن تعالج أزمات المدينة؛ بل ستصبح بمثابة الكيانات المنعزلة في بيئاتها الحضرية كما هي الضواحي التي تم ابتكارها لمعالجة مشاكل المدينة الصناعية، والتي كرست الفصل الاجتماعي والعرقي. علينا أن ندرك أن دور التخطيط العمراني يتجلى كمنهج تنموي شمولي، ويخطئ من يحاول حصره في توزيع المناطق، ومسارات الحركة، أو وضع تصورات مادية لاتجاهات النمو العمراني.

التخطيط العمراني يؤكد على معالجة مشاكل التباين الاجتماعي، والبطالة، وانحسار الموارد الطبيعية وهي مشاكل معقدة لا يمكن حلها من خلال نماذج مثالية جامدة؛ بل تتطلب مقاربات مرنة، تراعي السياق المحلي، وتقبل بالتجريب والتقويم المستمر. ومن هنا أؤكد على أهمية ممارسة تخطيطية واعية قائمة على المشاركة المجتمعية، وقابلة للتقويم، وغير خاضعة للمزاج الارتجالي. هذه الممارسة قادرة على ربط الواقع العمراني بالسياق الاقتصادي، والاجتماعي، والبيئي لتصنع نموذجا محليا مستداما يرتقي بالمدينة ويحقق المستهدفات الوطنية العليا.