فهد عبدالله

المستحيل يتحقق

الثلاثاء - 16 ديسمبر 2025

Tue - 16 Dec 2025



هناك فكرة متكررة بين الحين والآخر، وهي أنه لو عدنا بالزمن مئتي عام، واستعرضنا بعض المنتجات والاختراعات التي نعتبرها اليوم عادية، لكانت في ذلك الوقت ضربا من ضروب السحر أو الميتافيزيقيا، ولا يمكن قبولها إلا من خلال قوالب المعجزات التي لا يمكن تفسيرها. على سبيل المثال، كانت فكرة أن يسافر الإنسان في الهواء على متن آلة أسرع من أي حيوان أمرا خياليا، واليوم الطائرة جزء من حياتنا اليومية. فكرة التحدث أو إرسال رسالة فورية لشخص على الجانب الآخر من العالم كانت تبدو مستحيلة، أما اليوم فالهواتف والإنترنت جعلت ذلك أمرا عاديا. كما أن اكتشاف الفضاء وإرسال البشر إلى القمر أو إرسال مسبارات لكواكب بعيدة كان يعتبر مستحيلا، واليوم هو واقع ملموس. حتى العلاج من أمراض كانت مميتة قبل القرن العشرين أصبح ممكنا بفضل الله ثم الأدوية. أو على الجانب الآخر لو مثلا قلت لك الآن بعد مئتي سنة من الآن سيكون انتقال البشر من مكان إلى آخر بشكل لحظي أو الطيران الفردي كبديل لوسائل التنقل كافة أو القدرة على العيش تحت الماء أو في الكواكب أو التواصل المباشر العقلي دون الحاجة لوسائل تواصل وغيرها من قائمة التخيلات، إذا كنا إيجابين في التسمية وإلا قد تؤول إلى الخزعبلات أو أساطير المتقدمين في أشكال أخرى من التسمية.

كل هذه الأمثلة توضح أن العلم والتجارب والتراكم المعرفي تصنع معجزات قد لا تخطر على عقل بشر في حقبة زمنية معينة، وفوق كل ذلك، هو جزء من تسخير الله سبحانه وتعالى لكل ما في الكون للبشر من خلال أدوات العلم، وأن الكون بأسره في متناول الاستكشاف والفهم الإنساني. (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

الحقيقة الجوهرية هي أن أصحاب تلك العلوم والأفكار التجريبية عندما قدموا نظرياتهم وأفكارهم، كانت محط مقاومة قوية، ولم يكن متخيلا يومها أن تلك الأفكار ستنجح في صناعة أشياء عظيمة لم تخطر على عقل بشر، وربما حتى على أصحابها أنفسهم. مثال على ذلك نيوتن الذي اقترح فكرة الجاذبية، ولم يكن من السهل على الناس تصديق أن قوة غير مرئية تحكم حركة الأجرام السماوية والأجسام على الأرض، لكن تراكم الملاحظات والتجارب لاحقا أكد صحة نظريته وفتح مجالا لفيزياء جديدة لم يكن البشر ليحلموا بها قبل ذلك. ألكسندر غراهام بيل عندما اخترع الهاتف، واجه الكثيرون عدم تصديق أن الناس يمكنهم التحدث مباشرة عبر الأسلاك لمسافات طويلة، وكانت الفكرة محل سخرية واستغراب، واليوم التواصل عبر الأثير أساس التواصل بين البشر في كل مكان حول العالم.

إيفريت روجر (Everett Rogers) أسس نظرية انتشار الابتكار (Diffusion of Innovation Theory) هي نظرية تركز على كيفية انتشار الأفكار والاختراعات بين الناس عبر الزمن، وفي اعتقادي، إنها ليست محصورة على الابتكار ولكن يمكن قولبتها لكل مجتمع يتلقى فكرة سواء كانت جديدة أو منسوخة ولكنها لم تأخذ حظها في الانتشار لذلك المجتمع.

باختصار، النظرية تقول إن الناس لا يتقبلون كل فكرة جديدة بالطريقة نفسها أو في الوقت نفسه، بل ينقسمون إلى مجموعات بحسب سرعتهم في التبني وعلى خمس مراحل، المبادرون (Innovators) القلة التي تتبنى الفكرة فور ظهورها، وتجربتها دون خوف من الفشل، والمتبنون الأوائل (Early Adopters) الذين يقتنعون بالفكرة بسرعة بعد رؤية بعض الأدلة، ويصبحون داعمين لها، والأغلبية المبكرة (Early Majority) تنتظر نتائج واضحة قبل تبني الفكرة، والأغلبية المتأخرة (Late Majority) مترددون ويحتاجون لإقناع وتجربة ملموسة قبل القبول، والمتأخرون عن التبني (Laggards): يرفضون الفكرة غالبا أو يتأخرون طويلا قبل قبولها.

وهذه النظرية قد تفسر موضوع الخاطرة التي كانت في المقدمة من حيث قبول الأفكار الجديدة فضلا عن تسميتها بالتخيلات أو الخزعبلات.

الحضارة الإنسانية ليست مجرد تراكم للمعرفة فقط، بل هي رحلة مستمرة من الجرأة على الحلم والإقدام على المجهول. كل فكرة صغيرة اليوم قد تكون شرارة تشعل ثورة في المستقبل، وكل تجربة غريبة قد تفتح أبوابا لم يكن لأحد أن يتخيلها. لا تخف من أن تحلم بما لم يجرؤ أحد على تصديقه، ولا تتردد في أن تجرب ما يراه الآخرون مستحيلا، فالعالم ينتظر من يشق طرقه نحو المعجزات القادمة.