علي عبدالله باوزير

الواقعية

الاثنين - 15 ديسمبر 2025

Mon - 15 Dec 2025



يبني الإنسان حياته على أسس، ولا بد لهذه الأسس أن تتفق مع الواقع، فالواقعية هي أساس الفهم السليم للحياة، وهي أساس العمل الناجح. والواقع هو أكبر مدرسة يتعلم منها الإنسان: فجميع العلوم أساسها التعلم من الواقع، سواء كانت علوما مادية، أو علوما إنسانية.

وقد تعلمت البشرية الكثير من دراسة الظواهر الطبيعية كالجاذبية والبرق والفيضانات وغيرها من الظواهر، كما تعلمت الكثير من دراسة التاريخ والسلوك الإنساني بمختلف جوانبه.

والفهم العلمي الواقعي يبدأ دائما بالملاحظة observation، فالواقعية لا تتطلب منا الكثير: وإنما كل ما على الإنسان أن يفعله هو أن ينظر أمامه ويصف ما يراه بتجرد ودون تحيز مسبق حتى يستوعب الواقع الذي يعيشه ويفهم ما يريد أن يفهمه.

ولذلك نجد آيات عدة في كتاب الله تدعونا إلى الفهم بقوله تعالى «أفلا تبصرون، فلينظر الإنسان، أفلا ينظرون، فانظروا، أولا يرون، أولم يروا، قل انظروا، أفلا تبصرون، يريكم،..».

فالله تعالى يريدنا أن نفهم الدين فهما واقعيا: أي أن نفهمه من خلال ما نراه واقعا أمامنا، سواء كان ذلك في شأن الأمور المادية، مثل قوله تعالى (فلينظر الإنسان إلى طعامه* أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا * فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقضبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا * متاعا لكم ولأنعامكم) (عبس: 24 - 32). (أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) (السجدة: 27).

(أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) (الأنبياء: 44).

أو التعلم من واقع الأحداث التي تمر بنا في الحياة، مثل قوله تعالى

(أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) (التوبة: 126).

(أولم يروا أنا جعلنا حرما ءامنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) (العنكبوت: 67).

أو التعلم من الواقع التاريخي، مثل قوله تعالى:

(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) (الروم: 42).

(ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من ٱلقرون أنهم إليهم لا يرجعون) (يس: 31).

والمغزى أن تعلم الإنسان من ما يراه أمامه هو أساس المعرفة البشرية، وأن تدبر كتاب الله يوضح لنا أن الواقعية من أهم أسس المعرفة المطلوبة من المسلم، بل وأننا نصل إلى الإيمان من خلال النظر إلى ما نراه أمامنا والتفكر في مدلولاته:

إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ﴿190﴾ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلىٰ جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ﴿191﴾ ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظلمين من أنصار ﴿192﴾ ربنآ إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن ءامنوا بربكم فـٔامنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيـٔاتنا وتوفنا مع ٱلأبرار ﴿193﴾ آل عمران.

الخلاصة، إن الدين في مفهوم الإسلام ليس مجرد «كلام نظري» بعيد عن الواقع، بل هو فهم عملي وواقعي، والله يأمرنا بالواقعية: سواء في فهمنا للدين أو في عملنا به، وعلى سبيل المثال علينا الأخذ بالعرف الإنساني: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (الأعراف: 199).

أو الواقعية في العفو عن المضطر:

(إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) (البقرة: 173).

أو حتى الواقعية في إدراك حدود ما يمكن أن نفهمه أو أن نتقبله:

(يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين) (المائدة: 101-102) .

كما نجد الواقعية في التكليف، فيقول تعالى:

(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (البقرة: 286).

لعل تحريم الخمر بصورة تدريجية، مراعاة للواقع ولصعوبة المنع الفجائي، هو أحد أوضح الأمثلة على الواقعية في الإسلام... فالواقعية واحدة من أهم الركائز التي يتميز بها الإسلام، ولا يجب أن يكون فهم المسلم للأمور مبنيا على تخيلات أو تصور «نظري» لا علاقة له بالواقع، بل إن الواقعية مطلوبة من المسلم، وهي واقعية مطلوبة في الفهم، ومطلوبة في العمل.. حتى لا تكون هناك فجوة ما بين الدين وبين واقع الحياة.

أما إذا فصلنا الدين عن الواقع فعندها سوف يتحول فهمنا للدين إلى فهم «نظري»، ويتحول عملنا بالدين إلى عمل غير ناجح، ولا بد أن يؤدي ذلك إلى تناقضات بين ما نفهمه من الدين وبين الواقع الذي نراه ونعيشه، وهذه الفجوة لا بد أن تؤدي إلى زرع الشك في نفوس البعض، وقد يصل الأمر بهم إلى الإلحاد والعياذ بالله.

وهنا لا بد من السؤال: لماذا يتعامل البعض مع آراء بشرية لم تعد واقعية وقد ولى زمانها على أنها «ثوابت» لا تجوز مراجعتها، بينما هي في نهاية المطاف آراء بشرية لا قداسة لها؟

وهل هذا «الجمود الفكري» له أساس من الدين، أم أنه خطر على الدين؟

وإذا كان علينا احترام الواقعية في شأن الدين، ألا يكون علينا احترام الواقعية في شأن الدنيا؟ وخاصة أن هناك مظاهر عديدة لعدم احترام الواقعية في حياتنا.

مجرد تساؤلات أعتقد أنه آن أوان الإجابة عنها.