القيادة بالحب... حين يصبح القلب أداة للتغيير!
الأحد - 14 ديسمبر 2025
Sun - 14 Dec 2025
في أحد اللقاءات، قيلت جملة بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل من العمق ما يكفي لإعادة تشكيل طريقة تفكير كاملة حول القيادة: «لنقود 2026 بحب... لا بخوف، ولا إكراه...»
توقفت عندها طويلا، ليس لأنها عبارة شاعرية، بل لأنها تعيد طرح سؤال قديم: لماذا نتردد في استخدام كلمة «الحب» داخل بيئة العمل، بينما كل التحولات الكبرى في حياة الإنسان تبدأ من مكان يشبه الحب؛ من شعور داخلي يدفعه ليكون أفضل، أقوى، وأكثر انتماء؟
في عالم الإدارة، في أحيان عديدة ما نختزل في مؤشرات الأداء، والأرقام، والجداول الزمنية، لكن الحقيقة الأكثر رسوخا التي يثبتها علم النفس هي أن الإنسان لا يبدع لأنه خائف، بل لأنه (محترم، مفهوم، ومقدر)، وأن القيادة التي تحسن قراءة الجانب النفسي من العاملين، تستطيع أن تبني فرقا قوية لا تحتاج إلى الصراخ أو التهديد كي تعمل.
القيادة بالحب ليست رومانسية، ولا تعني تمييع القرارات أو تبرير الأخطاء، بل هي ممارسة واعية تعيد للإنسان مكانته داخل المؤسسة، هي أن تقول للفريق: أنا أرى قيمتك، قبل أن تقول: أريد منك نتيجة.
هذا النوع من القيادة يرتبط بما يسميه علماء النفس بـ«السلام النفسي المهني» (Psychological Safety)، وهو الشعور بأن بيئة العمل تسمح لك بأن تكون نفسك، وأن تخطئ كي تتعلم، وأن تتكلم دون خوف، وأن تقدم فكرة دون أن تحاكم. عندما يتحقق هذا الأمان الداخلي، تنخفض مقاومة التغيير، ويصبح الفريق أكثر حماسا لتجربة الجديد، وأكثر قدرة على مواجهة ضغوط المرحلة.
المؤسسات التي تدار بالحب لا تتغير بسرعة فقط، بل تتغير بعمق. فالحب يصنع شيئا لا تستطيع السياسات الإدارية وحدها أن تصنعه، يصنع الانتماء.. والانتماء هو الوقود الحقيقي لأي تحول، مهما كانت خطته محكمة. الفرق التي تحب قائدها لا تعمل من أجل الخوف، بل من أجل المعنى، ولا تتقدم بدافع الحسبة الوظيفية، بل لأنهم يشعرون أن نجاح المؤسسة جزء من هويتهم الشخصية.
هناك قيادات تؤمن بأن الطريق إلى الإنجاز يمر عبر الضغط المستمر، والمحاسبة القاسية، واستخدام السلطة بصورة مفرطة، لكن ما أثبته الواقع أن هذا النوع من القيادة، حتى إن حقق نتائج مؤقتة، فإنه يترك خلفه فرقا منهكة، وبيئة عمل تتآكل من الداخل، وتسربا وظيفيا يلتهم أفضل الكفاءات.
في المقابل، القائد الذي يمتلك حبا صادقا للفريق - حبا بمعنى الرغبة الحقيقية في أن ينجحوا، وأن يكبروا، وأن يجدوا أنفسهم - قادر على بناء تأثير أبقى من جميع الصلاحيات الإدارية. هذا القائد يترك بصمة لا تنسى، لأننا لا نتذكر ما فعله المدير فقط... بل كيف جعلنا نشعر ونحن نعمل معه.
في السياق المحلي الجميل، يروي أحد الكشافة المتطوعين في أحد مواسم الحج «كنا منهكين، والنهار طويل.. اقترب قائد الفريق وقال: أنا ممتن لكل خطوة تبذلونها، فبكم يشعر الناس بالأمان. لم تكن مجرد جملة... كانت الدافع الذي أعاد إلينا القدرة على إكمال اليوم كله». هذه اللحظة تكشف أن كلمة صادقة من قائد تؤثر أحيانا أكثر من أي لائحة أو خطة.
عندما تولى ساتيا ناديلا قيادة مايكروسوفت، كانت الشركة تعاني من صراعات داخلية وإرهاق تنظيمي. لم يبدأ بالإجراءات، بل بدأ بشيء أبسط: نشر ثقافة التعاطف. جعل الفرق تستمع لبعضها، وتفهم بعضها، وتحترم اختلاف المهارات. خلال سنوات قليلة، تغيرت الشركة من الداخل، ليس بالقوة، بل بالحنان التنظيمي - بالمفهوم الإداري لا العاطفي - وأصبحت واحدة من أنجح الشركات عالميا.
القصة ليست درسا إداريا فقط، بل مثال على أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل قبل الخارج، ومن الإنسان قبل القرار، القيادة بالحب لا تحتاج إلى شعارات، بل إلى ما أراه ثلاث ممارسات يومية: أولا، أن يرى القائد الإنسان قبل المهمة، أن يدرك أن الموظف ليس رقما، بل قصة حياة خلف المكتب. ثانيا، أن يصنع بيئة يشعر فيها الجميع بالأمان النفسي، ليكون الخطأ فرصة، والفكرة مساحة حقيقية، والتطوير مسؤولية مشتركة. ثالثا، أن يؤمن بأن الارتقاء لا يفرض... بل يلهم، وأن القائد الذي يخاف منه الناس قد يحقق إنجازات، لكن القائد الذي يحبونه... يصنع نهضة.
القيادة ليست مجموعة قرارات موزعة على عام مالي، وليست رحلة صعود نحو قمة السلطة، القيادة (في جوهرها) حرفة إنسانية، أن تلمس القلوب قبل أن تدير العقول، وأن تبني أثرا يبقى حتى بعد أن يغادر الجميع القاعة، وعندما نقود 2026 «بحب»... فإننا لا نبني خطة عمل فقط، بل نبني روحا قادرة على حمل المستقبل، وروحا تعرف أن أعظم الانتصارات تبدأ من فكرة بسيطة: أن نحب العمل... وأن نحب من يعملون معنا.