تركي القبلان

العقوبات البريطانية وإعادة تعريف الصراع في السودان

الأحد - 14 ديسمبر 2025

Sun - 14 Dec 2025



تحسم الصراعات المسلحة في عالم اليوم عبر مزيج معقد من القوة الميدانية والقدرة على التحكم بسرديتها السياسية والأخلاقية قبل لحظة الحسم، حيث لم تعد السيطرة العسكرية كافية لتأمين موقع الفاعلين في المشهد اللاحق للصراع. ففي زمن تتداخل فيه المعركة العسكرية مع صراع تحديد من يملك حق البقاء في المشهد السياسي، باتت العدالة الدولية أداة لإعادة تعريف من يعد فاعلا مقبولا في المستقبل ومن يدفع مبكرا إلى خانة الإدانة والعزل. من هذا المنطلق لم تعد القرارات القانونية الدولية مجرد توثيق لاحق للانتهاكات بل تدخل استباقي يرسم حدود الممكن سياسيا قبل أن تتبلور التسويات.

في توقيت دقيق وبينما تتصاعد المعارك حول الفاشر وتتوالى التقارير الأممية التي توثق انتهاكات ترتقي إلى جرائم حرب ارتكبتها قوات الدعم السريع، اختارت المملكة المتحدة أن ترسل رسالة لا تحتمل التأويل: العدالة الدولية لن تكون بندا مؤجلا يستدعى في نهاية الصراع بل أداة فاعلة حاضرة منذ الآن. فالعقوبات التي فرضت على قيادات بارزة في قوات الدعم السريع لا يمكن قراءتها بوصفها رد فعل أخلاقيا متأخرا لكنها خطوة محسوبة ضمن مقاربة أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل قواعد المشروعية في السودان قبل أن تتبلور أي تسوية سياسية.

تمثل هذه العقوبات وعلى رأسها استهداف عبد الرحيم دقلو شقيق محمد حمدان دقلو (حميدتي) تحولا نوعيا في تعاطي لندن مع الصراع السوداني. فالمقاربة البريطانية انتقلت بوضوح من موقع المراقبة والتحذير إلى توظيف العدالة الدولية كأداة سياسية ضاغطة في لحظة مفصلية من عمر الصراع، لحظة تتقاطع فيها الوقائع الميدانية مع إعادة تعريف الخطوط الحمراء دوليا. هنا لم تعد العدالة إطارا لاحقا لترتيب ما بعد الحرب بل عنصر فاعل يستخدم لإعادة ضبط سلوك الفاعلين قبل الوصول إلى طاولة التفاوض.

هذا التحول لا يمكن فصله عن إعادة إحياء المقاربة الغربية لملف جرائم دارفور ولا سيما بعد تراكم الأدلة حول الفظائع المرتكبة في الفاشر ومحيطها. تسعى بريطانيا إلى تثبيت سردية قانونية مبكرة تمنع إعادة تدوير هذه الجرائم سياسيا أو تبييضها ضمن صفقات إنهاء الحرب. الرسالة واضحة وحازمة: لن يسمح بتحويل السيطرة العسكرية في الفاشر إلى «انتصار نظيف» يخلو من الكلفة الأخلاقية والقانونية، ولن يكون الصمت الدولي تكرارا لخطايا تاريخية سمحت سابقا بالإفلات من العقاب.

الأهم أن لندن لا تكتفي بالنقد الدبلوماسي أو الخطاب الأخلاقي إنما تعمل على بناء مسار محاسبة دولي متكامل. ما أعلنته وزيرة الخارجية البريطانية عن تقديم دعم فني مباشر لآليات العدالة الدولية واستثمار 1.5 مليون جنيه إسترليني في مشروع «شاهد السودان» لرصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان والتحقق منها، يؤكد أن العقوبات ليست خطوة معزولة لكنها جزء من بنية قانونية قيد التأسيس. وبهذا توضع قوات الدعم السريع أمام حساب دولي مسبق يذهب أبعد من تقييد تحركاتها السياسية إلى الحد أيضا من قدرتها على التحول إلى طرف شرعي في أي تسوية قادمة.

في هذا السياق تتقاطع الخطوة البريطانية مع التحول الأمريكي الأخير في الموقف من قوات الدعم السريع، وهو تحول لم يأتِ من فراغ أو من اعتبارات إنسانية مجردة. فإعادة معايرة الموقف الأمريكي جاءت بعد تشكل قناعات أعمق بطبيعة الصراع وخلفياته الإقليمية، وهي قناعات تأثرت بوضوح بالدور السعودي الذي قدم من خلاله سمو ولي العهد قراءة استراتيجية شاملة لطبيعة الأزمة ومآلاتها للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هذا التقاطع بين واشنطن ولندن يشير إلى بداية تآكل مرحلة «الغموض الاستراتيجي» وإلى توجه غربي متدرج لفرز الفاعلين بين من يمكن دمجهم في مستقبل الدولة ومن يجب تحميلهم كلفة نتائج الصراع المأساوية، حتى وإن ظل هذا التوافق محكوما باعتبارات مرحلية لا ترقى إلى وحدة رؤية كاملة.

الدلالة الأعمق في المقاربة البريطانية أن لندن اختارت البدء بملاحقة «الأدوات» قبل الوصول إلى «الشبكات» الرافدة لهذه الأدوات، فاستهداف القيادات الميدانية لا يهدف فقط إلى معاقبتها إنما أبعد من ذلك إلى تجفيف قدرتها على التحول إلى شريك سياسي مقبول، وفتح الباب تدريجيا أمام توسيع دائرة الضغط لتطال الممولين والداعمين عبر القيود القانونية والدبلوماسية. في هذا الإطار تتحول العدالة الدولية من أداة إدانة رمزية إلى عنصر بنيوي في هندسة الانتقال السياسي للمرحلة اللاحقة والتي يعاد من خلالها ضبط ميزان القوة داخل الصراع لا بعد انتهائه.

وهذا المسار التي نهجته بريطانيا ليس بلا سوابق في التاريخ الحديث للعدالة الدولية. ففي يوغوسلافيا السابقة بدأت المحاسبة بعقوبات استهدفت قادة عسكريين صرب في منتصف التسعينيات قبل أن تتطور إلى محاكمات أمام المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أسفرت عن إدانة سلوبودان ميلوسيفيتش وراتكو ملاديتش. وفي ليبيريا أدت العقوبات المفروضة على تشارلز تايلور في 2001 إلى فتح الطريق أمام محاكمته لاحقا في المحكمة الخاصة بسيراليون عام 2012 بتهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي السودان نفسه صدرت مذكرة اعتقال بحق الرئيس السابق عمر البشير عام 2009 بعد سلسلة من العقوبات والقيود الدولية التي بدأت قبل سنوات. العقوبات في هذه الحالات جميعا لم تكن نهاية المطاف بل الخطوة الأولى في بناء إطار قانوني يمهد لمحاسبة لاحقة أكثر شمولا.

وفي السودان تحديدا وعلى مستوى الميلشيات ليست هذه هي المرة الأولى التي تطال فيها العدالة الدولية ميليشيات دارفور. ففي 9 ديسمبر 2025 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكما بسجن علي محمد علي عبدالرحمن (علي كوشيب) أحد قادة ميليشيا الجنجويد لمدة عشرين عاما بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور بين 2003 و2004. التزامن الزمني بين هذا الحكم والعقوبات البريطانية يكشف عن تنسيق واضح في المقاربة الغربية: دفعة قانونية ودبلوماسية متكاملة تستهدف قطع الطريق على أي محاولة لتبييض سجل قوات الدعم السريع أو إعادة تأهيلها سياسيا.

هذا الحكم يتجاوز المحاسبة الفردية نحو تأسيس سابقة قانونية حاسمة: فقوات الدعم السريع التي نشأت أساسا من رحم ميليشيا الجنجويد وورثت بنيتها التنظيمية، وأنماطها العملياتية لم تعد تواجه فقط اتهامات سياسية أو إعلامية، بل تقف أمام مسار قضائي دولي مثبت ومكتمل. ما حدث مع علي كوشيب يظهر أن الإفلات من العقاب لم يعد خيارا متاحا، وأن المحاسبة مهما طال الزمن تظل ممكنة ومحتملة. العقوبات البريطانية اليوم في هذا السياق لا تبدأ من صفحة بيضاء بل تستكمل مسارا قانونيا بدأ منذ عقدين، وتؤكد أن ما ارتكب في دارفور بالأمس لا يختلف في جوهره عما يرتكب اليوم في الفاشر، وأن الفاعلين مهما تغيرت المسميات سيواجهون الحساب ذاته.

ما تفعله بريطانيا اليوم في السودان يعتبر رهانا على أن إدخال العدالة إلى قلب المشهد في وقت مبكر يمكن أن يغير حسابات الفاعلين على الأرض، وأن يضع سقفا صارما للمقبول سياسيا في أي تسوية قادمة. وفوق ذلك بات واضحا أن السودان لن يسمح له بأن يتحول إلى نموذج جديد للإفلات من العقاب، وأن جرائم دارفور لن تكون حاشية منسية في تاريخ صراع طويل.