نوال حسن المطيري

لماذا تنخفض قدرتنا على التركيز مع المحتوى السريع؟

الأحد - 14 ديسمبر 2025

Sun - 14 Dec 2025



في عالمنا الرقمي، يبدو الهاتف المحمول وكأنه نافذة سحرية إلى عالم لا ينتهي من المشاهد القصيرة، كل واحدة منها تتسلل إلى أعصابنا في ثوان معدودة، تأسرنا ضحكة، أو دمعة، أو شعور بالاشمئزاز، قبل أن نتمكن من فهم السبب الحقيقي لعمق تأثرنا بها. كل مقطع يمر بسرعة البرق، لكنه يترك أثره العميق، كأن الدماغ يستسلم لإيقاع لا ينتهي، ويبدأ في إعادة تنظيم انتباهه وفق هذا الإيقاع السريع. ومع كل تمريرة إصبع، يشعر المرء وكأن عقله يفقد القدرة على الثبات، وكأن التركيز يصبح مشتتا، وكأن القدرة على استيعاب فكرة واحدة أو متابعة نص طويل أصبحت أصعب من متابعة عشرات المقاطع التي لا تتجاوز ثواني معدودة.

إن المتعة الفورية التي تمنحها هذه المقاطع ليست مجرد إحساس عابر، بل عملية كيميائية دقيقة. في لحظة الضحك المفاجئ أو المشهد المؤثر، يفرز الدماغ مادة الدوبامين، هرمون المكافأة، في موجة قصيرة ولكن متكررة. هذه الموجات الصغيرة، التي تبدو غير ضارة، تتراكم تدريجيا وتدفع الدماغ للاعتياد على المكافآت السريعة، ليبدأ العقل في طلبها باستمرار، ويصبح أقل قدرة على الصبر، وأقل استعدادا لمواجهة أي نشاط يتطلب تركيزا عميقا. القراءة، التفكير، وحتى مجرد الاستماع إلى شخص يتحدث، تبدأ فجأة بالشعور بثقل ذهني، كما لو أن الدماغ لم يعد يمتلك القدرة على الانغماس في شيء واحد لفترة ممتدة.

لكن الأمر لا يتوقف عند التركيز فقط، بل يتعداه إلى المشاعر. المشاهد القصيرة تنقلك بسرعة بين حالات متناقضة: ثانية تشعر فيها بالضحك على موقف كوميدي، والثانية التالية يغمر قلبك الحزن على قصة مؤثرة، وفي اللحظة التالية قد تشعر بالاشمئزاز من تحد غريب أو مشهد صادم. هذه القفزات السريعة بين المشاعر، التي تعرف في علم النفس باسم «التبديل العاطفي»، لا تمنح الدماغ الوقت الكافي لمعالجة كل إحساس، ومع مرور الوقت، تصبح ردود الأفعال اليومية أكثر تقلبا. نصبح أكثر ميلا للملل، أسرع انفعالا، أقل قدرة على التحكم في الانفعالات، وأقل قدرة على التركيز على مهمة واحدة دون تشتيت.

هذا التنقل العاطفي المتكرر له أثره أيضا على الذاكرة. المعلومات التي نتلقاها في هذا الإيقاع السريع تمر أمام أعيننا دون أن تثبت في أدمغتنا. نحن نشاهد وننسى، نتابع ونفقد التفاصيل المهمة، ونجد أنفسنا مضطرين للعودة إلى المقطع نفسه مرات عديدة حتى نتذكره. هذا يحدث لأن الدماغ - كما تشير الدراسات الحديثة - يحتاج إلى وقت لمعالجة المعلومات ونقلها من الذاكرة قصيرة المدى إلى طويلة المدى، ووسط هذه الدوامة السريعة، لا يحصل على هذا الوقت. والنتيجة أننا نشعر كما لو أن حياتنا اليومية تمر بسرعة، وأن القدرة على التركيز على أي شيء طويل المدى أصبحت تحديا صعبا.

مع كل تمرير إصبع، يبدأ الدماغ في إعادة ترتيب أولوياته. الإشارات العصبية التي كانت تدعم الانتباه العميق والذاكرة المنتظمة تتحول تدريجيا نحو نمط يعتمد على المكافآت الفورية والانتباه المتقطع. هذا النمط الجديد ليس ضارا فقط من الناحية العقلية، بل يؤثر أيضا على سلوكنا اليومي. نشعر بالحاجة المستمرة للتحقق من الهاتف، حتى عند القيام بنشاط بسيط، ونجد أنفسنا عاجزين عن الجلوس بصمت أو الاستمتاع بلحظة هادئة دون البحث عن محرك جديد للمكافأة.

وحتى الأطفال والمراهقون لم يسلموا من هذه التأثيرات. أدمغتهم ما زالت في طور النمو، وأي نمط مفرط من التحفيز السريع يمكن أن يعيد تشكيل الوصلات العصبية الأساسية. فالتحفيز المستمر يجعل من الصعب عليهم تطوير مهارات التركيز العميق، والتفكير المنطقي، وضبط الانفعالات. وبالطبع، يزيد من شعورهم بالتوتر والانفعال عند مواجهة مهام تتطلب صبرا أو استمرارية، لأن الدماغ اعتاد أن يتلقى التحفيز الفوري كل ثانية تقريبا.

ومن ناحية أخرى نجد ان الدماغ لديه قدرة كبيرة على التعافي إذا منح فرصة الابتعاد عن التمرير المستمر لبعض الوقت، والانخراط في أنشطة تتطلب تركيزا ممتدا مثل القراءة، الكتابة، أو ممارسة الرياضة، يساعد الدماغ على إعادة بناء مساراته العصبية وتعزيز القدرة على الانتباه العميق. كل مرة نمارس فيها الصبر ونمنح الدماغ فرصة لاستيعاب المعلومات، نعيد تدريجيا تدريب العضلة الذهنية التي فقدناها بفعل التدفق المستمر للمحفزات.

وإذا نظرنا إلى المشاعر، نجد أن السيطرة عليها تتحسن أيضا عند ممارسة هذا الانضباط. الدماغ يتعلم مرة أخرى كيف يعالج الضحك والحزن والاشمئزاز بشكل متوازن، دون أن يطغى أحدها على الآخر أو يسبب تشتت الانتباه. هذا التوازن يمنح الشخص شعورا بالاستقرار الداخلي، ويعيد القدرة على التركيز على ما هو مهم في الحياة اليومية، سواء في العمل أو الدراسة أو العلاقات الشخصية.

في الواقع، ليست المقاطع القصيرة بحد ذاتها مشكلة، بل الاعتماد الكامل عليها كمصدر أساسي للترفيه والتحفيز العاطفي هو ما يخلق دائرة الانتباه المجزأ والذاكرة المتقطعة والانفعالات المتقلبة. كل ثانية تمر، كل ضحكة أو مقطع مشمئز أو مقطع حزين، تشكل جزءا من دورة مستمرة لا يدرك المرء أثرها إلا بعد أن يشعر بعجزه عن التركيز أو استرجاع المعلومات بسهولة، أو بعد أن يكتشف أنه لا يستطيع الجلوس بصمت أو الاستمتاع بلحظة هادئة دون أن يبحث عن محرك جديد للمتعة السريعة.

إن التعامل الواعي مع هذه المقاطع القصيرة ليس رفاهية، بل ضرورة. ضبط الوقت، اختيار المحتوى الذي يضيف قيمة، وإتاحة فترات من الهدوء والأنشطة العميقة، كلها خطوات بسيطة لكنها فعالة لحماية الدماغ من التحفيز المفرط. فالهدف ليس الامتناع عن التكنولوجيا، بل استخدام الأدوات الرقمية بطريقة تعيد للعقل التوازن والقدرة على التركيز والاستمتاع باللحظة دون إكراه أو إجهاد مستمر.

في النهاية، كل مرة نفتح فيها هاتفنا، نواجه اختبارا صغيرا: هل نسمح للمنصة بأن تتحكم في إيقاع عقلنا ومشاعرنا وذاكرتنا، أم نعيد نحن السيطرة، نختار متى نتابع ومتى نبتعد، ومتى نضحك ومتى نتأمل؟ الاختيار بين الاستهلاك السريع والتحفيز المفرط، أو الصبر والتركيز العميق، هو الاختبار اليومي الذي يحدد قدرة دماغنا على التركيز، وتماسك مشاعرنا، ووضوح ذاكرتنا في عالم يزداد سرعة وإثارة مع كل ثانية تمر.