عبدالله علي بانخر

حضرموت... بوابة العلم والسلم، وذاكرة التاريخ والجغرافيا، وعمق الجوار الأبدي والحوار المجدي

الأحد - 14 ديسمبر 2025

Sun - 14 Dec 2025



حضرموت بين الأصالة والمعاصرة

تذخر منطقة حضرموت في جنوب شبه الجزيرة العربية تاريخا عريقا وحاضرا يموج بالخصوصية والتميز. إنها ليست مجرد مساحة جغرافية، بل هي ذاكرة حية لتاريخ من الوسطية والاعتدال، ومركز إشعاع ثقافي امتزجت فيه حكمة الماضي بحيوية الحاضر. إن إلقاء نظرة على حضرموت وأهلها يكشف عن نموذج فريد من المجتمعات التي اتخذت من السلم والحكمة منهجا في التعامل مع أصعب التقلبات.

أولا: حكمة السلم واعتدال المنهج

إذا كان التاريخ يكتب بدماء الحروب، فإن تاريخ حضرموت يكتب بحبر القوافل ومداد العلم. لطالما كان أهل حضرموت عبر التاريخ أهل سلم ووسطية واعتدال، بعيدين كل البعد عن التشدد أو التطرف. ويتجسد ذلك في انتشار مدارس الفقه الشافعي والتصوف المعتدل، والذي عرف منذ قرون بمنهج يقوم على التسامح وقبول الآخر. هذه السمة ليست مجرد طبع، بل هي نتاج لالتزام عميق بالإسلام الوسطي المعتدل منذ نشأته، وحصن حافظ على خصوصيتهم من محاولات التداخل والأطماع الخارجية التي عصفت بالمنطقة على مر القرون. إنهم ينطلقون من باب قوة السلم وليس قوة الحرب، وهي فلسفة تتجلى في تعاملهم السياسي الذي يتسم باللطف والحكمة في فك رموز الألغام السياسية الداخلية والخارجية.

ثانيا: الموقع الاستراتيجي وبصمات الجغرافيا

تتمتع حضرموت بموقع استراتيجي لا يمكن إغفاله. فهي تطل على بحر العرب في امتداد حيوي يربط بين الخليج العربي وباب المندب، الذي يعد شريانا رئيسيا للملاحة الدولية المؤدية إلى قناة السويس. فعلى سبيل المثال، تعتبر مدنها الساحلية كالمكلا وقصيعر من أهم المنافذ البحرية على طول الساحل الجنوبي، مما يمنحها ثقلا في حركة النقل والتجارة الإقليمية. هذا الموقع لم يجعلها محط أنظار فحسب، بل دفع بأهلها إلى أن يصبحوا أهل ترحال وتجارة بامتياز. الجغرافيا هنا لم تكن قيدا، بل كانت محفزا للانتشار والتفاعل مع العالم.

ثالثا: الاندماج الثقافي: سفراء حضرموت للعالم

بفضل هذا الموقع، أتقن الحضارم فن الاندماج الثقافي. لقد انتشروا في مجتمعات العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، حاملين معهم قيمهم وتجاربهم. والمثال الأبرز لذلك هو الانتشار الواسع والمؤثر في جنوب شرق آسيا، وخاصة في إندونيسيا وماليزيا، حيث أسسوا سلالات تجارية وعلمية ساهمت في نشر الإسلام وثقافة التسامح. في مشارق الأرض ومغاربها، يتعامل أهل حضرموت بكل إخلاص وأمانة وجهد في السعي للرزق. هذه السمة الممزوجة بالنزاهة هي ما فتح الله به عليهم من أرزاق التجارة والاقتصاد، كما يظهر في تأسيسهم لمؤسسات ومصارف مالية وتجارية كبرى عابرة للحدود، فكانوا لبنة بناء في مجتمعات بلدانهم ومؤسساتها، وظلت هويتهم الثقافية راسخة ومؤثرة في آن واحد.

رابعا: خصال العراقة: الإخلاص والأمانة والصبر

إن ما يميز الحضرمي أينما حل هو منظومة الخصال الأصيلة التي نشأ عليها، والتي شكلت أساس نجاحه الاقتصادي والاجتماعي. تأتي في مقدمة هذه الخصال الإخلاص والأمانة، اللتان جعلتا منهم شركاء موثوقين ومؤتمنين على الأموال والأعمال. ويضاف إلى ذلك خصلة الصبر الجميل والجلد على العمل، وهو ما انعكس على قدرتهم على تأسيس إمبراطوريات تجارية بدأت من الصفر. وقد تجلى ذلك بوضوح عبر تاريخ بيوتات التجارة الحضرمية الكبرى في الشتات الآسيوي والأفريقي ودول الخليج، ممن بنوا نجاحهم على هذه القيم، واستخدموا ما رزقهم الله من مال في خدمة أوطانهم ومجتمعاتهم. إن هذه الروح السمحة والحرص على النزاهة هما السر وراء تقبل المجتمعات لهم واندماجهم الناجح في كل بقعة.

خامسا: الولاء الأبدي والجوار المجدي مع المملكة

تتبوأ المملكة العربية السعودية مكانة خاصة جدا في قلوب الحضارم، وهي علاقة تتجاوز مجرد الجوار السياسي. لقد ارتبطت حضرموت ببلاد الحرمين الشريفين منذ ظهور الإسلام وقبله، وتعزز هذا الارتباط وتجذر أثناء وبعد تأسيس الدولة السعودية على يد المغفور له الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - ومن بعد أبنائه العظام. وليس أدل على هذا الارتباط العميق من التواجد الحضرمي الكبير في المملكة وتاريخهم الطويل في المشاركة في تنميتها وازدهارها، بالإضافة إلى العلاقات الأسرية الممتدة عبر الحدود.

إن هذا الارتباط ليس آنيا، بل هو تاريخي، ديني، واجتماعي عميق. ولذلك، فإن أهل حضرموت يدينون بالولاء والمحبة للمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، ويرون في قيادتها الشقيقة الكبرى التي تمثل عمقهم العربي والإسلامي، والسند الذي لا غنى عنه في أوقات الشدة والرخاء. هذا الشعور العميق بالانتماء والمحبة يعكس وعيا بأهمية الاستقرار الذي تمثله المملكة، ودورها الريادي في خدمة قضايا الأمة.

حضرموت... قوة ناعمة لا يستهان بها

تظل حضرموت، بثقلها التاريخي، موقعها الجغرافي، وثقافة أهلها المسالمة والمنفتحة، تمثل قوة ناعمة لا يستهان بها في خارطة الجزيرة العربية. إنها نموذج على أن الحكمة والاعتدال والالتزام بقوة السلم يمكن أن يكونوا أكثر فاعلية واستدامة من منطق الصراع.

ختاما، فإن الحفاظ على خصوصية حضرموت وهويتها الوسطية هو استثمار في استقرار المنطقة كلها، وفي ظل العلاقات الوطيدة التي تجمعها بالمملكة العربية السعودية، يتطلع أهل حضرموت إلى مستقبل يعيد لهذه المنطقة العريقة ألقها واستقرارها المنشودين.