قانون قيصر: قراءة تحليلية في آثاره ومسارات سوريا بعد إلغائه
الأحد - 14 ديسمبر 2025
Sun - 14 Dec 2025
منذ دخوله حيز التنفيذ عام 2020، شكل قانون قيصر أحد أشد أدوات الضغط الأمريكي على النظام السوري، إذ صمم لفرض عقوبات واسعة على مؤسسات الدولة السورية وكل من يدعمها، ولا سيما في قطاعات الطاقة والبنى التحتية والتمويل، بهدف منع إعادة الإعمار من دون مساءلة عن الانتهاكات المرتكبة بحق المدنيين. ومع التحول السياسي الذي شهدته واشنطن هذه الأيام، واندماج مقترح إلغاء القانون داخل مشروع قانون الدفاع الأمريكي، عاد الجدل حول آثار قيصر الفعلية ومستقبل سوريا بعد رفعه.
أثر القانون بعمق في الاقتصاد السوري خلال خمس سنوات، إذ أسهم في تقليص فرص الاستثمار وأبطأ مشاريع إعادة الإعمار التي كانت تتطلع إليها الحكومة السورية. امتنعت الشركات الغربية عن الدخول بأي نشاط اقتصادي قد يعرضها للعقوبات، ما دفع دمشق للاعتماد على شركاء محدودين من روسيا وإيران. في الوقت ذاته، أدت العقوبات إلى ضغوط مالية غير مسبوقة، تدهورت خلالها قيمة العملة وتفاقمت الأزمة الاقتصادية، فيما سُجلت آثار إنسانية غير مباشرة ظهرت في صعوبة استيراد بعض المواد والتقنيات التي تمس قطاعات حيوية مثل الصحة والخدمات الأساسية.
انطلق قانون قيصر من خلفية سياسية وأخلاقية واضحة، فقد استند إلى صور ووثائق كشفها فريد المذهان، والذي سمى نفسه خفية بقيصر، وهو أحد المنشقين عن النظام السوري، والتي وثقت انتهاكات واسعة داخل مراكز الاحتجاز. جاء القانون لربط أي انفتاح اقتصادي أو إعادة إعمار بضرورة المحاسبة وحماية المدنيين، على أمل دفع النظام إلى تغييرات سياسية أو قانونية داخلية. إلا أن التطبيق العملي ولد نقاشا متزايدا حول فاعلية العقوبات في تغيير السلوك السياسي من جهة، وفي تخفيف معاناة المدنيين من جهة أخرى.
أما دوافع إلغاء القانون، فتعود إلى مزيج من الحسابات السياسية والإقليمية. فقد رأى مشرعون أمريكيون أن تخفيف القيود قد يفتح الباب أمام سياسة أكثر مرونة تجاه دمشق، فيما ضغطت قوى إقليمية لصياغة إطار جديد يسمح بإعادة دمج سوريا في محيطها العربي وفتح قنوات استثمارية واسعة. مع ذلك، ربط الإلغاء بشروط رقابية تتعلق بالسلوك السياسي والأمني لسوريا، مثل تحسين وصول المساعدات ودعم مكافحة الإرهاب واحترام بعض المعايير الإنسانية.
فتح إلغاء القانون الباب أمام سيناريوهات متعددة. السيناريو الأكثر ترجيحا في المدى القريب يتمثل في تعاف اقتصادي محدود، إذ قد تبدأ استثمارات إقليمية بالخروج إلى العلن، خصوصا مع رغبة بعض الدول الخليجية في الدخول إلى قطاعات الطاقة وإعادة الإعمار. غير أن هذا التعافي سيظل هشا ما لم يرفق بضمانات للمستثمرين وإصلاحات مالية تقلل من مخاطر الفساد والبيروقراطية. في المقابل، قد يتحول الانفتاح الاقتصادي إلى أداة في مسار تطبيع سياسي محسوب يعيد دمشق تدريجيا إلى المشهد الإقليمي، لكن ضمن معادلة نفوذ معقدة تجمع روسيا وإيران والسعودية وتركيا.
تبقى الإشكالية الأبرز في البعد الإنساني والحقوقي. فغياب إطار واضح للعدالة الانتقالية قد يعني عمليا تكريس الإفلات من العقاب، الأمر الذي يثير مخاوف واسعة لدى منظمات المجتمع المدني والناجين من العنف. وإذا لم ترفق عملية إعادة الإعمار بآليات واضحة للمحاسبة والمصالحة، فقد تتحول إعادة الإعمار إلى إعادة إنتاج للأزمة بصيغة جديدة، مع ما يحمله ذلك من تداعيات اجتماعية وسياسية على المدى الطويل.
إن مستقبل سوريا بعد رفع قانون قيصر سيحدد بميزان دقيق بين الانفتاح الاقتصادي والالتزام السياسي. فالمجتمع الدولي سيبحث عن ضمانات حقيقية قبل ضخ الأموال، والدول الإقليمية ستسعى لتعظيم نفوذها داخل الاقتصاد السوري، بينما سيبقى المجتمع السوري في قلب هذه المعادلة، متأرجحا بين الحاجة الملحة للتعافي الاقتصادي وضرورة تحقيق العدالة وضمان عدم تكرار الانتهاكات.
في المحصلة، يتيح إلغاء قانون قيصر فرصة للانتقال نحو مرحلة جديدة قد تخفف من التدهور الاقتصادي وتفتح أفقا للتعاون الإقليمي، لكنه يحمل أيضا خطر الانزلاق نحو تسوية اقتصادية بلا إصلاح سياسي أو عدالة، ما يجعل المرحلة المقبلة مفصلية في تحديد ملامح سوريا القادمة. فإذا استثمر هذا التحول ضمن إطار واضح للمساءلة والشفافية، فربما يشكل بداية إعادة البناء. أما إذا غابت الضوابط، فقد يتحول الإلغاء إلى مجرد تغيير شكلي لا يغير جوهر الأزمة.