عصر الاقتصاد الإبداعي: كيف تتحول الفكرة إلى أصل وطني؟
الأحد - 14 ديسمبر 2025
Sun - 14 Dec 2025
في ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة، برز مفهوم الاقتصاد الإبداعي كأحد المسارات الحديثة لإنتاج الثروة، معتمدا على العقول والقدرات البشرية، لا على الموارد التقليدية. لقد تغير منطق القيمة الاقتصادية؛ إذ لم يعد محصورا في المادة الخام أو رأس المال الصناعي، بل أصبح يعتمد على المعرفة، والابتكار، والقدرة على إنتاج محتوى ذي أثر ثقافي واقتصادي مستدام.
ويعرف الاقتصاد الإبداعي بأنه المنظومة التي تقوم على تحويل المهارات والمعرفة والخيال إلى منتجات وخدمات تحمل قيمة اقتصادية وثقافية، وتشمل هذه المنظومة قطاعات تمتد من الصناعات الثقافية والفنية إلى الإعلام الرقمي، التصميم، البرمجيات، والألعاب الالكترونية، وتعد هذه القطاعات اليوم من بين الأسرع نموا في العالم، ليس فقط من حيث العائد المالي، بل من حيث قدرتها على توسيع نطاق التأثير الاجتماعي والهوية الوطنية.
وتقدر مساهمة الصناعات الإبداعية عالميا بأكثر من 4.3 تريليونات دولار سنويا، تمثل نحو 6,1% من الناتج الإجمالي العالمي، وتوفر ما يقارب 30 مليون وظيفة، معظمها في الفئة العمرية الشابة، ويكشف تقرير (أونكتاد 2024) أن التجارة العالمية في السلع والخدمات الإبداعية تجاوزت 2.6 تريليون دولار، مع نمو متسارع يفوق الصناعات التقليدية في كثير من الاقتصادات الصاعدة، وهذه الأرقام لم تعد مجرد مؤشرات اقتصادية، بل باتت مؤشرا على نوعية التحول في عقلية الإنتاج حول العالم.
وتظهر بعض الدول كيف يمكن للاقتصاد الإبداعي أن يتحول إلى رافعة تنموية شاملة، فالمملكة المتحدة مثلا تمكنت من رفع مساهمة الصناعات الإبداعية إلى 5.7% من ناتجها المحلي، عبر دعم السياسات والكوادر، وتحويل لندن إلى مركز عالمي للفنون والمحتوى، وفي شرق آسيا، صنعت كوريا الجنوبية من منتجاتها الإبداعية نافذة للقوة الناعمة، وجعلت الموسيقى والدراما والألعاب أدوات اقتصادية تحقق عوائد بمليارات الدولارات، وتسهم في تشكيل الصورة الذهنية للدولة عالميا.
ولكن الإبداع لا يتحول تلقائيا إلى اقتصاد، ما لم تبنَ بيئة حاضنة تضمن الحماية، والرعاية، والتسويق، حيث تشكل حماية حقوق الملكية الفكرية حجر الزاوية في ضمان استدامة هذا القطاع، كما أن الوصول العادل للتقنية والتدريب يعد شرطا لازما لتوسيع المشاركة المجتمعية فيه، ويبرز تحد آخر أكثر عمقا: كيف نوازن بين التسويق التجاري للثقافة وبين الحفاظ على أصالتها؟ فالتسليع غير المنضبط قد يفرغ المحتوى من هويته، ويحول التراث إلى صورة لا روح فيها.
وفي السعودية، يمثل الاقتصاد الإبداعي أحد الأعمدة الحديثة لرؤية 2030، تأسست هيئات نوعية كهيئة الموسيقى، وهيئة الأفلام، وهيئة الأزياء، وهيئة الأدب والنشر، لتكون أذرعا تنفيذية قادرة على تحويل المحتوى الثقافي إلى منتج اقتصادي، كما تحمل مشاريع كبرى مثل العلا، الدرعية، وجدة التاريخية، مضمونا يتجاوز السياحة إلى اختبار مدى قابلية الإبداع السعودي للتدويل والاستثمار، وكما تحقق المملكة خطوات لافتة في مجالات الإعلام الرقمي، وصناعة المحتوى، والألعاب الالكترونية، بما يظهر إرادة سياسية واقتصادية لتحويل الإبداع إلى قطاع قابل للنمو والمنافسة.
ويبقى التحدي الأكبر: كيف نربط بين الفكرة والفرصة؟ كيف نمنح المبدع مساحة وآلية ليحول خياله إلى منتج، دون أن يفقد خصوصيته، أو يخسر حقوقه؟ والجواب يكمن في بناء منظومة ثقافية واقتصادية متداخلة، تبدأ من التعليم وتنتهي بالتشريعات، وتستند إلى الإيمان العميق بأن الفكرة، حين تحترم وتحظى بالحماية، قادرة على أن تصبح ثروة وطنية لا تنضب.