وليد الزامل

جائزة بن عياف ومستقبل أنسنة المدن

الأحد - 14 ديسمبر 2025

Sun - 14 Dec 2025



في إطار الاهتمام المتزايد بالمدن والتوجهات التنموية التي تركز على خدمة الإنسان بوصفه محورا أساسيا في بناء المدن المستدامة. تأتي جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن كمشروع محلي له آفاق عالمية تعزز الوعي الفكري بأهمية البحث العلمي في مجال يخدم الإنسان في سياق المدينة. أرى أن الجائزة في دورتها الثالثة باتت تتعامل مع الأنسنة في إطار معرفي شمولي يدعم فكرة التطوير الحضري للبيئة العمرانية بشكل يتماشى مع أهداف المجتمع.

قلت سابقا إن مفهوم الأنسنة يجب ألا يتوقف عند الإطار الشكلي للمدينة؛ بل يتجاوز ذلك نحو معالجة عمق احتياج الإنسان وعلاقته بالمدينة. فالمدينة الإنسانية كما وصفها الأمير بن عياف هي التي تعزز «البعد الإنساني..، تمثل التحول من المكان الصامت إلى المكان الفاعل الذي تنتج فاعليته من تشكله في نسيج عمراني، ييسر للإنسان صنع مسيرته الشخصية، ويحقق للجماعة تشكيل هويتها الاجتماعية». وهذا يعطي المصطلح أبعادا واسعة للبحث في إطار تنموي وليس في مجرد التدخلات المادية أو الوقتية. من هذا المنطق، يمكن القول إن الجائزة تحفز البحث العلمي في أبحاث وأطروحات وتجارب أكثر عمقا، فالبعد الاقتصادي يمكن أن يتناول دعم فرص التحول نحو النشاطات الاقتصادية المجتمعية؛ بما في ذلك الأسر المنتجة في الأحياء السكنية أو توفير قاعدة اقتصادية محلية للمدن الصغيرة.

أما البعد الاجتماعي فيمكن أن يركز على مفاهيم الإدماج الاجتماعي وتعزيز الوصولية للموارد بعدالة، والارتقاء بالتعليم. أما الجانب البيئي فيمكن أن يبحث في مجالات تشمل تطوير أحياء سكنية تعزز السلوكيات والممارسات الصحية. وقبل ذلك كله تؤكد أنسنة المدن على تطوير البنية التشريعية، والإجرائية، والتنفيذية لخلق بيئات عمرانية قادرة على التماهي مع احتياجات الإنسان بعيدا عن فكرة التحسين القائمة على اجتهادات وقتية ليست مستدامة.

في مساحات الحوار قد يجادل البعض أن الأصل في المدينة هو الاستجابة لاحتياجات الإنسان؛ إلا أن الأنسنة تبحث في كيفية تلبية الاحتياجات والتحديات التي تواجه عملية التخطيط لتصبح المدينة «أكثر» ملاءمة للإنسان. وإن كان مصطلح أنسنة المدن يتلاقى في كثير من جوانبه مع مصطلح الاستدامة الحضرية؛ إلا أن محاولة تأطيره تنطلق من فهم احتياجات الإنسان ومحاولة تكييف المدينة بكامل أبعادها لتكون أكثر ملاءمة لهذه الاحتياجات. إن تلاقي هذا المفهوم مع مبادئ أخرى مثل الاستدامة أو جودة الحياة أو المدن الذكية لا يلغي خصوصية هذا المصطلح وتفرده بقيم المجتمع المحلي. كما أن ربط مفهوم أنسنة المدن بالصحة والاقتصاد والمجتمع والثقافة يجعله أكثر قابلية للقياس.

وبعيدا عن الأطروحات السطحية التي يمكن أن يفهمها البعض حول أنسنة المدن والتي تركز على البعد المادي المحض كتكوين الساحات العامة وتصميم الأرصفة والجودة البصرية، أرى أن دعم البحث العلمي في مجال أنسنة المدن له آفاق واسعة بما في ذلك خلق الفرص الاقتصادية الواعدة للمجتمع المحلي، ودعم الصحة والسلامة العامة، والارتقاء بالتعليم والرفاه الاجتماعي. ما يميز الدورة الثالثة من الجائزة الحضور الواسع من الأكاديميين والخبراء والباحثين، وهو ما يعكس مستقبلا واعدا للجائزة يتخطى الإطار المحلي إلى المستوى العالمي.

في الختام، فإن جائزة الأمير عبدالعزيز بن عياف لأنسنة المدن ليست مجرد حفل تكريمي؛ بل هي مساحة واسعة تدعونا للتأمل والتفكير في صياغة نماذج عمرانية تتفاعل مع المجتمع وتحمل قيما فكرية وتنموية أكثر إنسانية.