بقايا الأسد الهارب بين وهم العودة وواقع الانهيار
الأربعاء - 10 ديسمبر 2025
Wed - 10 Dec 2025
لم يكن انتقال بشار الأسد إلى المنفى في موسكو حدثا عاديا في المشهد السوري ولا مجرد تفاصيل أخيرة في قصة رجل فقد سلطته، بل تحول يختصر نهاية نموذج كامل من الحكم. فالمنفى هنا لم يكن جغرافيا بقدر ما كان رمزيا، إذ أكد أن النظام الذي احتكر السلطة لعقود وقام على شخصنة الدولة وتغول الأجهزة الأمنية وصل إلى ذروة تفككه. ورغم أن سقوط رأس السلطة كان متوقعا فإن ارتدادات هذا السقوط داخل شبكات النفوذ القديمة بدت أعنف وأعمق مما توقعه المراقبون، لأن غياب الحاكم فجر تناقضات كانت مختبئة تحت طبقات من الخوف والولاء الإجباري.
وعلى هذه الأرضية المتصدعة يصعد اسم ماهر الأسد كأبرز من يحاول التمسك ببقايا النفوذ، فهو الذي شكل طوال سنوات الحرب قبضة النظام الحديدية وارتبط اسمه بالقوة العسكرية التي استندت إليها السلطة في مواجهة المجتمع.
لكن ما كان قوة ذات يوم لم يعد كذلك في مرحلة ما بعد السقوط. فشبكاته العسكرية التي كانت متماسكة تشتتت، وولاءات ضباطه تآكلت، والطائفة التي مثلت عماد نفوذ العائلة لم تعد مستعدة للدخول في صراع جديد. ومع ذلك يرفض ماهر الاعتراف بأن الأرضية التي يقف عليها لم تعد قادرة على حمل مشروع سياسي أو عسكري يعيد أجزاء من السلطة القديمة. إن رفضه للمنفى هو في جوهره رفض للاعتراف بنهاية زمن عائلي وحقبة أمنية انتهت موضوعيا حتى وإن بقيت بعض مظاهرها في الذاكرة.
وفي الزوايا الأكثر عتمة يتحرك اللواء كمال حسن أحد أعمدة الجهاز الأمني القديم ورجل يمتلك أرشيفا واسعا وشبكة معقدة من العلاقات داخل سوريا وخارجها. وحسن يعرف تفاصيل المنظومة التي انهارت، ويجيد التنقل بين خطوطها المتبقية، ويحاول الاستفادة من حالة الفراغ لإعادة تشكيل موقع نفوذ جديد. لكنه يواجه واقعا لا يشبه ذلك الذي عرفه، فالأجهزة الأمنية التي اعتاد العمل من خلالها تفككت، والقدرات التي كانت تمنحه سلطة لا تناقش تراجعت بعد أن انكسرت هالة الرعب التي أحاطت بالمخابرات لعقود. لذلك تبدو تحركاته أقرب إلى إعادة تدوير أدوات فقدت فعاليتها لا إلى مشروع قابل للتبلور في المشهد الجديد.
أما رامي مخلوف فيدخل المشهد من زاوية مختلفة تماما، فهو لا يعتمد على القوة المسلحة أو الأجهزة، بل على شبكة مالية اجتماعية لطالما شكلت خلفية الاقتصاد السياسي للنظام. وبعد سقوط النظام وجد نفسه أمام تناقض جديد، ثروة بلا غطاء سياسي وشبكات ولاء بلا حماية رسمية وجماعة منهكة فقدت الثقة بوعود السلطة. لذلك يحاول مخلوف اليوم إعادة صياغة دوره عبر اللعب على المخاوف الطائفية والاقتصادية مقدما نفسه كدرع اجتماعي للطائفة العلوية، باعثا برسائل توحي بقدرته على إعادة تشكيل قوة تمثل ورقة ضغط في المشهد الحالي. غير أن خطابه وإن بدا منظما ينطلق من قراءة عاطفية للواقع أكثر منها سياسية، فالمجتمع الذي يستهدفه لم يعد يستجيب بسهولة لخطابات الخلاص القديم، لأنه اختبر النتائج الكارثية لتلك الشراكة.
ومع تداخل هذه الأدوار يبدأ الحديث عن انتفاضة مضادة أو محاولة لإعادة إنتاج النظام القديم بالظهور في وسائل الإعلام والدوائر السياسية، لكن التحليل المتعمق يكشف أن هذا الحديث أقرب إلى تضخيم إعلامي منه إلى مشروع فعلي قابل للتنفيذ. فالقوى التي يقال إنها تخطط لمثل هذا السيناريو تواجه ثلاث معضلات جوهرية تمنعها من تحويل رغباتها إلى فعل سياسي حقيقي.
فالمعضلة الأولى: هي المعضلة المجتمعية، فالمجتمع العلوي الذي شكل الحاضنة الأساسية للنظام لم يعد كما كان. فقد عانى نزيفا بشريا واقتصاديا هائلا، وتعرض لانقسامات داخلية عميقة، وفقد أبناءه في حرب طالت سنوات دون جدوى واضحة. ومع انهيار النظام وجد نفسه بلا حماية فعلية وبلا امتيازات وبلا أفق يعيد إليه الثقة. ولذلك فإن أي محاولة لاستدعائه إلى صراع جديد لن تجد صدى حقيقيا. فالطائفة اليوم تبحث عن الاستقرار لا عن المغامرات، وعن الاندماج في الدولة الجديدة لا عن إعادة إنتاج مشروع حملها إلى حافة الانهيار.
المعضلة الثانية: هي المعضلة الدولية الإقليمية؛ فالمشهد الإقليمي تغير جذريا، حيث لم تعد روسيا راغبة في الاستثمار السياسي في بقايا النظام القديم بل تسعى إلى تفاهمات عملية مع السلطة الجديدة تحفظ نفوذها المتبقي على الأرض. أما القوى الإقليمية والدولية الأخرى فلا ترى في مشروع استعادة الأسد أو إعادة تدوير رجاله سوى وصفة للفوضى وإعادة إشعال حرب قد انتهت. لذلك فالعالم الخارجي الذي كان عاملا حاسما في بقاء النظام سابقا أصبح اليوم جزءا من معادلة تمنع عودته.
المعضلة الثالثة: هي المعضلة السياسية الداخلية؛ فالحكومة السورية الحالية تتحرك ضمن مقاربة واضحة بناء دولة جديدة لا تسمح بقيام مراكز قوى موازية ولا بعودة رموز الحقبة القديمة لإدارة الملفات الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية. وهي تدرك أن أي تساهل مع تلك الشبكات سيقوض ثقة الشارع بها ويعيد البلاد إلى نقطة الاضطراب. لذلك تعمل على ضرب بقايا الشبكات القديمة واستيعاب البيئة الاجتماعية ضمن إطار قانوني ومؤسساتي يمنع إعادة إنتاج المظلات التي اعتمد عليها النظام السابق.
وبناء على هذه العوامل يتضح أن ما يجري اليوم هو صراع مع الزمن أكثر من كونه صراعا على السلطة. فبقايا النظام السابق تتحرك محكومة بضغط الخوف من النهاية بينما يتحرك المشهد السوري الجديد محكوما برغبة في تجاوز الماضي وعدم السماح بعودته. ولهذا فإن محاولات ماهر وأذرع النظام السابقة ليست إلا ضجيجا في فراغ سياسي يتشكل من دونهم.
ولذلك جاءت رسالة الحكومة السورية الحالية حاسمة وواضحة، لن يسمح بعودة تلك الشبكات ولا بتشكيل أي نفوذ مواز للدولة ولا باستخدام الطائفة أو الفوضى كأدوات للضغط أو الابتزاز السياسي. فقد أعلنت السلطات بصريح العبارة أنها ستواجه أي محاولة لإثارة الاضطرابات أو إعادة تدوير رجال النظام السابق بيد من حديد، وباستخدام كامل أدوات الدولة القانونية والأمنية لحماية استقرار البلاد ومنع جرجرتها إلى صراعات جديدة.
وبهذا تنتهي مرحلة طويلة كانت السلطة فيها مختطفة لصالح عائلة وتحالف ضيق، وتبدأ مرحلة جديدة تؤكد فيها الدولة أنها وحدها المرجعية، وأن سوريا لن تعود إلى النقطة التي بدأت منها الأزمة مهما تعددت محاولات الماضي للعودة متخفيا خلف الضجيج.
alatif1969@