الدبكة السورية بين ميزان الفنون الأدائية ولعبة السياسة
الأربعاء - 10 ديسمبر 2025
Wed - 10 Dec 2025
عقدت جمعية دراسات المرأة للشرق الأوسط الأمريكية AMEWS مؤتمرها السنوي للعام الأربعين MESA، في نهاية نوفمبر من هذا العام 2025 كما هو المعتاد من كل عام، حيث يجتمع قرابة ألفي باحثة وباحث في شؤون الشرق الأوسط والدراسات النسوية من كل أنحاء العالم في إحدى المدن الأمريكية، وكان هذا العام في واشنطن العاصمة، خلال أربعة أيام ينتشر طلبة العلم والباحثون في أنحاء الموقع يتنقلون من جلسة إلى أخرى في خيارات صعبة، حيث إن الجلسات المتزامنة تبلغ العشرين عددا، ومن الصعوبة بمكان حضورها أجمع بلا شك. هذا فضلا عن العروض السينمائية المرافقة للمؤتمر، الاجتماعات البحثية واللقاءات العلمية ومعرض الكتاب المتخصص ولقاء الناشرين، بالإضافة إلى اللقاء السنوي لجمعية دراسات الشرق الأوسط، حيث تعلن نتائج انتخابات رئاسة الجمعية وكلمتها، ونتائج انتخابات اللجان كافة. كما يتم الإعلان في هذا اللقاء عن الكتاب الفائز لهذا العام في الدراسات الجندرية بالشرق الأوسط.
وكان الكتاب الفائز لهذا العام هو كتاب د. شاينا م. سيلفرستاين، الأستاذة المساعدة في قسم الدراسات الأدائية بجامعة نورث وسترن بالولايات المتحدة الأمريكية، بعنوان «التوازن المتوتر، السياسة المتجسدة في موسيقى رقصة الدبكة في سوريا»، Shayna M. Silverstein, The Embodied Politics of Dabke Dance Music in Syria, Fraught Balance “، نشر مطبعة جامعة وسليان Wesleyan، ونظرا لأني كنت إحدى عضوات لجنة جائزة الكتاب، وللعام الثاني، فأجد أن قص التجربة مهم في كيفية الاختيار، وما تضمن الأمر من اعتبارات صعبة. وقد كان اختيار هذا الكتاب من بين 13 كتابا هو مجمل ما تم تقديمه هذه السنة لما كتب عن الدراسات الجنسانية في الشرق الأوسط. بالإضافة إلى اختيار كتابين آخرين يليانه في الدرجة أعطيا تكريما معنويا Honorary Recognition، وهما كتاب د. عزيزة شانازاروفا، أستاذة الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا، «التدين النسائي في آسيا الوسطى، قادة الصوفية في العالم الفارسي»، Aziza Shanazarova, Female Religiosity in Central Asia, Sufi Leaders in the Persiante World، نشر مطبعة جامعة كامبريدج، والثاني لد. عفاف الجابري، أستاذة العلوم الإنسانية وحقوق الإنسان بجامعة شرق لندن، «النساء الفلسطينيات اللاجئات من سوريا إلى الأردن، تفكيك الجغرافيا السياسية للنزوح»، Afaf Jabiri, Palestinian Refugee Women from Syria to Jordan, Decolonizing the Geopolitics of Displacement, نشر دار تاوريس Tauris.
حصل الكتاب الفائز على إجماعنا المحكمات الثلاث لعدة اعتبارات، منها تميز الدراسة، الدراسة البينية المكثفة بين علم الفن الأدائي والدراسات الاجتماعية والاثنوغرافية والتاريخية والسياسية، والإضافة في مجال الدراسات الجندرية وهنا في علم الرجولة بالتحديد. فالكتاب لم يكن يقص قصة رقصة الدبكة في سوريا فحسب، وإنما يعد أرشيفا للتداخلات الثقافية والاجتماعية والسياسية كافة التي اتصلت بهذا الفن الشعبي المنتشر في القرى والأرياف ويبتعد عن المدن، وكيف تم تبنيه من قبل الدولة ليكون ممثلا ثقافيا للنظام السوري، بينما كان الناس يصارعون لإبقائه فنا شعبيا خالصا، وفي خضم هذه التجاذبات كانت قصة تاريخ سوريا الحديث منذ العهد العثماني، فالاستعمار الفرنسي وعبر النظام البعثي فالوحدة فنظام أسرة الأسد وصلة هذه التطورات التاريخية بالثقافة الشعبية، وما تمثله الفنون الأدائية من تعبير عن الصمود والشجاعة والانتماء والرجولة أيضا، حيث إن هذه الرقصة كانت في أساسها رقصة يمارسها الذكور دون الإناث إلا في الفترات المعاصرة. وقد ساند الكتاب وضع الصور والفيديوهات المشار إليها في النص على موقع الكتروني مستقل https://shaynasilverstein.com/fraughtbalance/. وتحمل الدبكة في شكلها الاستعراضي استعراضا لقوة التحمل واللياقة البدنية العالية، والإحساس الفني والإبداعي، ولكن في الوقت نفسه تحمل معاني التعاون والتساند، حيث إن هذه الرقصة تتميز بممارستها من خلال صف من المؤدين، ويقوم الشخص الطرفي بقيادة الصف، وبعد ذلك يقوم باستعراض منفرد يمارس من خلاله أقصى ما لديه من فن لياقي من القرفصة والقفز المتوازن لدرجة الطفو ومن ثم يتحول الصف إلى نصف دائرة في كامل التناسق والتناغم. وهذا مجرد توصيف، لكن دراسة شاينا الاثنوغرافية لفنون الدبكة بين القرى المختلفة ما بين عامي 2004 و2007 في سوريا نفسها، وبعد ذلك عن بعد، واتجهت إلى الفن الرقمي في ظل تدهور العلاقات الأمريكية السورية، وبعد ذلك الانتفاضة الشعبية في 2011، تحمل أبعادا مهمة في فهم آليات العلاقات الاجتماعية والعرقية والمناطقية ودور الفنون الشعبية الممارسة في ساحة القرية في عكس صورة الفرد والجماعة في قوتها وتميزها وتفردها، دون الحاجة للكلمة، فالدبكة عابرة للغات لكن ليست للطبقات، تعتبر مساحتها ساحة للحرب والسجال. وفي المهجر عبرت الدبكة عن ملاذ للانتماء بعيدا عن الطائفية والطبقية والجندرية بعد تناول مفصل للحالة الثقافية في ظل الثورة السورية. كشف الكتاب كم أن فنا شعبيا مثل الدبكة يحمل كثيرا من التمثلات المركبة لسوريا الريف والمدينة، للحرب والسلم، وبشكل رئيس يتحدث عن مفهوم الرجولة من خلال هذا النوع من التعبير، كما أن الدراسة تسائل علاقات الاستعمار والامبريالية بالقوة، وكيف تتحول الأجساد الظاهرة أو غير الظاهرة، المسموعة أو غير المسموعة، المفهومة أو غير المفهومة من خلال الأداء والبحث في فن الأداء لتعبر عن القوة والسلطة والبقاء.
وتعد الدبكة فنا أدائيا وموسيقيا قديما في بلاد الشام ربما يعود إلى الفترات الكنعانية، لكنه ممتد إلى العراق وجنوب تركيا كذلك. وحديثا دخل هذا الفن في مفردات المقاومة سواء الفلسطينية أو الكردية أو السورية. ولعل ما يميز دراسة هذه الباحثة أنها صدرتها بالتعريف بنفسها كما ينبغي في الدراسات الاثنوغرافية لتدرك القارئة أو القارئ أبعاد الموضوعية، الحياد، أو البحث الرصين. وكان مثيرا، حيث إنها عرفت بنفسها كباحثة أمريكية من أصل يهودي أشكنازي علماني مناصرة للقضية الفلسطينية وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وإن هذه الخلفية جعلتها حذرة من أن يساء فهم بحثها أو وجودها في سوريا وقراها، فكانت من جهة تستفيد من هيأتها السمراء بشعر أسود يجعلها تندمج في المجتمع بسهولة، ومن جهة حرصت على عدم إثارة هذه النقطة من التعريف بالنفس للعامة في سوريا وفق نصيحة أصدقائها السوريين، لتجنب الأحكام المسبقة، وهو حكم مارسته نفسي على الكتاب عند قراءة اسمها، لكن مصارحة القارئة بهويتها كانت نقطة إيجابية في صالحها جعلتني أتصالح مع قراءتي لها مع الحذر بالطبع. وقصة الدبكة قصة ملغمة تراثيا وفلسطينيا، نظرا لأن الكيان الصهيوني وضع يده عليها منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، واستحوذ عليها وهودها كما فصلت في هذا الأمر الباحثة ليلى مرعي Leila Mere من جامعة بيركلي. وأكتفي بهذا القدر إلى حين تناول الكتابين الآخرين في مساحة قادمة.