أحمد بن حمضة

فيلم «اللي باقي منك» والقدرة على سردية النضال الفلسطيني الثقيل

الثلاثاء - 09 ديسمبر 2025

Tue - 09 Dec 2025

ينطلق فيلم «اللي باقي منك» للمخرجة الفلسطينية شيرين دعيبس من النهاية تقريباً أو بالأصح من الحدث الذي من خلاله ستنطلق سردية الفيلم، سردية الوجع وبدايته منذ عام النكبة كما يطلق عليها في عام 1948، أو إذا أردنا التعبير بشكل أكثر وضوحاً هو الرجوع لبداية وجع جيل يعيش من جديد في ورطة الطمع والجشع والنهب تحت أتون آلة التدمير والتهجير، وخاصة أن الألم الفلسطيني لم يكن مؤرخاً بهذا التاريخ بالتحديد، ولكنه يعود لما قبل ذلك تحت سياط الاحتلال البريطاني.
ولكن لنقل أن الفيلم يعود بنا للحظة محاولة استبدال شعب يملك الأحقية بأرضه ومكانه، مقابل استيراد أناس واعطاءهم أرض ووطن لا يملكونه. هذه اللحظة هي اللحظة التي تبدأ بها الأمور ويبدأ بها الفيلم في سرده، مؤطراً الفيلم في فصول تاريخية، تبدأ كما أشرت من الحدث الذي سيرجعنا لبداية السنة المشؤومة ودخول الآلة الإسرائيلية الغاشمة في الهجوم والتهجير والقتل، ومن بعدها تستمر إلى أن تصلنا إلى ما بدأ به الفيلم، حتى تتضح الأمور بشكل أكثر جلاءً ووضوحاً، ويتضح لنا مصيرية هذا الحدث وأهمية انطلاق الفيلم من خلاله. فمن خلال رصاصة وجهت خلال مظاهرة ضد الاحتلال، لأحد أبناء الشخصيات الرئيسية، دون وضوح مصير هذا الأبن، لنشاهد عندها الأم، وهي تحمل عبء صوت شهرزاد لتحكي وتتكلم بشكل مباشر للكاميرا وكأنه تخاطبنا جميعاً، بقولها: قبل أن أتحدث عن ابني دعني أحدثك عن جده، وعندها نرجع لبداية عام 1948م وتحديداً في يافا، عند عائلة تملك مزرعة كبيرة بالبرتقال المشهورة به، هي عائلة الجد الذي يقف مدافعاً عن أرضه وبيته ومزارعه، إلا أنه يقع في الأسر وتبدأ عندها رحلة المعاناة، رحلة تهجير وقتل شعب وديار بأكملها، من خلال التسليط على شخصية الجد، وبعدها ننتقل إلى جيل جديد، جيل أبناء هذا الجد الذي استطاع أن ينجو من الأسر بسبب أزمة قلبية، ونشاهد حينها طريقة تفكير جيل جديد، جيل مهزوم من القهر والخوف، إذ يعيش الجد بجوار ابنه الذي كان يعلمه لما كان صغيراً أنشودة الشاعر حافظ إبراهيم: أنا البحر في احشاءه الدر كامن.. فهل سألوا الغواص عن صدفاتي، أبن اعتاد من والده على حفظ الشعر وعلى قيمة وعظمة اللغة العربية، مفاهيم وقيم ذوت وصار مكانها الكتب قبال ما يحصل من واقع مر وموجع، وبجانب الأبن الذي كبر واصبح معلماً، الحفيد الذي انهارت علاقته الجميلة مع والده عندما شاهد ما حدث له لما وقع بين أيد الاحتلال وكيف أذلوه دون أن يفعل شيء، دون أن يفهم أن ما فعله والده كان للحفاظ على نفسه وعليه، ولكن الأبن الذي أخذ من جده قيم النضال والمقاومة، يكبر ويصبح أكثر عناداً، وعندها نرجع للنقطة لبداية الفيلم، ومتابعة الأبن حتى لحظة انطلاق الرصاصة واصابته في الرأس، وبعدها يتحرك الفيلم للأمام في محاولة انقاذ الأبن بعد نجاته بأعجوبة من الرصاصة، و نقله لأحد المستشفيات المشهورة لمعالجته ولكن بعد إجراء العملية له، يشخّص أنه ميت دماغياً وأن لا أمل في نجاته، وعندها يضع أمامهم المستشفى خيار التبرع بالأعضاء، وبعد رفضهم لمثل هذا الخيار، يقرران أن يفعلا ذلك، وأن يزرعا من أعضاء ابنهم ما يمكن أن يكون حياة لغيره، ولكن ماذا لو تم زراعة أحد أعضاء ابنهم لأحد المحتلين؟ هذا السؤال المقلق يقودنا لرحلة جديدة وخيار صعب، ولكن بعد استشارة أحد رجال الدين في البلد، يوافقون على ذلك بشرط أن يعرف كل شخص تم التبرع له أن هذا العضو جاء من ولد فلسطيني، ثم بعدها ينتقل الفيلم لرحلة أخرى للالتقاء بالأشخاص الذين حصلوا على أعضاء ابنهم، ليلتقوا في نهاية رحلتهم كما فهمنا منهم بمنزل عائلة إسرائيلية، وهي العائلة الوحيدة الغير فلسطينية التي حصلت على عضو ابنهم، لمحاولة الالتقاء بالطفل المتبرع له، الذي يبتعد عنهم خوفاً، لنذهب بعدها للحاضر وتحديداً لحاضر الفيلم في سنة 2022، لنكتشف عندها أن الأم كانت تتكلم وتسرد السردية الفلسطينية للأبن الإسرائيلي المتبرع له، ليدور عندها حوار بينهم حول معنى أن يكون هناك قلب فلسطيني في جسد إسرائيلي، قلباً كما نفهم استطاع أن ينقذ البعض من القتل بيد هذا الإسرائيلي لإنه لم يستطع أن ينضم للجيش بسبب عارض صحي، وكأن القلب كان سبب مباشر في ذلك، ولينتهي الفيلم في رحلة للزوجين، رحلة تذكر بين الديار المسلوبة والرجوع للمنزل القديم للأبن، حيث «البيارات»، مزارع البرتقال ، ومكان اللعب والركض، شوارع ما زالت شاخصة في ذاكرته، وليقف عندها كلاهما أمام البحر وهو يعيد ويردد بيت الشعر الذي حفظه من والده آن ذاك: أنا البحر.
يتضح أن الفيلم كان محملاً بهاجس سرد الفاجعة الفلسطينية من زاوية قريبة جداً من الأحداث المفصلية التي دفت شعباً كاملاً أن يعيش ضيفاً ثقيلاً في وطنه المسلوب منها، وأن يطلب منه أن يستأذن قبل الدخول لمنزله الذي كان لأبوابه وجدرانه ملجأ ولترابه وأشجار البرتقال رائحة الوطن ونسيمه، هذا الهاجس تحدياً أرهق الفيلم في الدخول بالكثير من التفاصيل دون الحاجة لذلك، مما أوقعه في عدة مسارات أو رحلات، وقرارات متشابكة بهدف التبرير أو التأكيد أحياناً، أو شرح صعوبة الظروف القاسية التي تحيط بالعائلة في رحلتها العلاجية. رحلة قد تبدو بسيطة للبعض، ولكنها في ظل الظروف الصعبة، تتضح أنها تحتاج إلى سلسلة طويلة من الموافقات والتصاريح للسفر والعلاج.
ومن ناحية التبرير، فرجوع الزوجان لرجل الدين لمعرفة صحة موقفهما مثلاً، تجد أن غايته هو تبرير ما سوف يحدث ليس فقط لإقناع شخصيات الفيلم، بل حتى لإقناعنا نحن كمشاهدين، لفهم أحقية ما سوف يفعلانه وسببه، والتالي هو خوف من الفهم الخاطئ الذي سنخرج به بعد مشاهد الفيلم، وهو خوف مبرر إلى حد ما، لأن رسالة الفيلم نفسها تبدو عالقة في منطقة بينية، دون وضوح هدفها بالتحديد وخاصة بعد هذا السرد الطويل للمعاناة لثلاثة أجيال، فمن جهة هي تذهب لرفع نداء سلام والتصالح مع الطرف الآخر وأن يكف كل منهم هذا الصراع الممض والموجع، ومن ناحية أخرى هو تأكيد أن المقاومة باقية ومستمرة ومتجددة، وأن النبض الفلسطيني قادر على اختراق الجسد الإسرائيلي، وجرحه وتهشيم إرادته. ومن هنا نلاحظ أن الخشية من سوء الفهم يتجلى حتى داخل الحكاية نفسها، كما نرى في ردة فعل شقيق الزوج حين يواجهه بلوم المجتمع لما فعله بابنهما عبر التبرع بالأعضاء، إذاً هو خوف ينشأ داخل الفيلم، ليصل إلينا بعدها كمشاهدين.
ومن ناحية أخرى، على الرغم أن كاتبة الفيلم ومخرجته امرأة، إلا أن حضور وتواجد المرأة داخل الفيلم كان حضوراً مكملاً أكثر منه فاعلاً، إلا في دورها في سرد القصة، فهي على عكس الرجال المتواجدين بالفيلم، والمتمايزين، الذين ظهروا بصورة متعددة وأكثر عمقاً وفرصاً للاختلاف، بينما ظهرت المرأة بصورة واحدة ومستسلمة، أو متقبلة لما يدور حولها، حتى لو كان هدف الفيلم التركيز على ثلاثة أجيال من الرجال ونظرتهم لما يحصل من حولهم، إلا أن الأصوات الأخرى التي كانت بجانب هؤلاء الرجال، كان يمكن أن تمنح العمل أكثر اتساعاً وفهماً أعمق، إذ ان الاكتفاء بدورها كراوية أو شاهدة ترك مساحة ناقصة في التجربة الفلسطينية التي لم تكن يوماً مختزلة فقط في صوت أو جنس واحد.
بالرغم من ذلك، يظل الفيلم واحداً من أهم الأعمال السينمائية التي تناولت سردية القضية الفلسطينية بكل وجعها، ومعاناة التهجير والدمار. سردية لا تزال بحاجة إلى مثل هذه الأعمال التي تمنح المشاهد رؤية بانورامية واضحة عما حدث في الماضي، وتفسر جذور ما يحدث اليوم. إنها رحلة أجيال تتأرجح بين النهوض والمقاومة، أو الاكتفاء بالمراقبة والتذمر والغضب، أو بالتمرد من جديد. وتضع المخرجة شيرين أمام أعينها جيلاً جديداً يرسم ملامح الأمل بالمقاومة، ولكن بطرق مختلفة هذه المرة.