الذوق العام: من تحديات الأدب الفردي إلى فرص النظام المجتمعي
الاثنين - 08 ديسمبر 2025
Mon - 08 Dec 2025
الذوق العام أساس التماسك المجتمعي
في عالم يشهد تنوعا وتداخلا غير مسبوقين في الفضاءات العامة، لم يعد الذوق العام مجرد ترف أخلاقي أو مهارة اجتماعية فردية، بل تحول إلى ضرورة حضارية ومقياس لنجاح الدول في إدارة الفضاء العام. هذا المفهوم المحوري يمثل الجسر الذي يعبر من القيم الأخلاقية العرفية إلى الضوابط الملزِمة التي تحفظ كرامة الفرد والنظام الجماعي.
إن تأسيس أرضية مشتركة للسلوك المقبول هو ركيزة التماسك المجتمعي واستدامة جودة الحياة. يهدف هذا المقال إلى تفكيك مفهوم الذوق العام في أبعاده اللغوية والعلمية والقانونية، واستعراض الآليات العملية التي تتبناها الدول والمجتمعات لتحويل هذا الإحساس الراقي إلى نظام حياة مطبق على أرض الواقع.
تحديد المفاهيم: تعريف الذوق العام
لغة: تشير كلمة «الذوق» في أصلها إلى الحاسة الفسيولوجية (ابن منظور، 2003). إلا أن معناها المعنوي يرتبط بـالمَلَكة المعنوية التي تمكن من الحكم على الشيء بدقة وحساسية (التهانوي، د.ت)، وترادف آداب السلوك والإدراك السليم لما هو لائق.
علميا (اجتماعيا/سوسيولوجيا): يعرف الذوق العام كمجموعة من القواعد الضمنية والصريحة التي تحكم التفاعل الاجتماعي. يعد الذوق العام جزءا من «المعايير الاجتماعية» (Social Norms) التي تحدد السلوك المقبول والمرفوض (Sherif, 1936)، ويتجلى في «رأس المال الاجتماعي» (Bourdieu, 1984) الذي يميز الطبقات الاجتماعية وقدرتها على التكيف مع الفضاء العام (هابرماس، 1991).
قانونيا: هو مجموعة السلوكيات والآداب التي يلزم القانون بها الأفراد في الأماكن العامة، والتي تعبر عن النظام العام والآداب العامة للدولة. يهدف التعريف القانوني إلى حماية الأمن والسكينة العامة ومنع الإخلال بالحياء العام (Gardner, 2007).
إيجابيات وجود قوانين الذوق العام
- تعزيز جودة الحياة والبيئة: توفير بيئة عامة نظيفة وهادئة ومحترمة (مجلس الوزراء السعودي، 2019)، مما يزيد من رضا المواطنين والمقيمين.
- الحماية من الإزعاج والتعدي: توفير حماية قانونية ضد السلوكيات المخلة بالسكينة العامة (مثل الضوضاء أو الفوضى)، والسلوكيات التي تنتهك الخصوصية (Gardner, 2007).
- توحيد المعايير الحضارية: وضع إطار مرجعي واضح للسلوكيات المقبولة والمرفوضة، مما يقلل من الفوضى السلوكية ويدعم صورة الدولة الحضارية.
- دعم الهوية الثقافية: تساعد هذه القوانين في حماية القيم الثقافية والدينية الراسخة للمجتمع (العجمي، 2021).
- غموض التعريف وحدود التضييق: قد يؤدي غياب التعريف الدقيق إلى قوانين فضفاضة تستخدم للتضييق على الحريات الشخصية أو التعبير المشروع (Gould, 2017).
- التحيز في التطبيق: يمكن أن يساء استخدام هذه القوانين أو تطبق بشكل غير متساوٍ، مما يؤدي إلى التمييز ضد فئات معينة.
- تغليب القانون على التوعية: الاعتماد المفرط على العقاب القانوني قد يضعف دور المؤسسات التوعوية، ويحول الالتزام من قناعة ذاتية إلى خوف من العقوبة (العجمي، 2021).
- تفشي الفوضى السلوكية: انتشار السلوكيات المخلة بالآداب العامة دون رادع، مما يقلل من جودة البيئة الحضرية.
- تدهور التماسك الاجتماعي: تآكل الاحترام المتبادل وزيادة النزاعات بين الأفراد بسبب عدم وجود مرجعية واضحة للحدود المسموحة.
- انطباع سلبي عن المجتمع: تشويه الصورة العامة للدولة، مما يؤثر على السياحة والاستثمار.
يعتمد التطبيق الفعال للذوق العام على تضافر ثلاثة محاور رئيسية:
1 - المحور القانوني والتنظيمي (الردع)
- إصدار التشريعات واللوائح: سن لوائح واضحة تحدد السلوكيات والتصرفات المخالفة (مجلس الوزراء السعودي، 2019).
- تحديد المخالفات والعقوبات: وضع جدول واضح لتصنيف المخالفات والغرامات المالية المقررة عليها لضمان الردع (Gardner, 2007).
- سلطة التطبيق والرقابة: تعيين جهات مختصة لفرض تطبيق اللائحة في الأماكن العامة.
- إدماج الذوق العام في المناهج: تضمين مفاهيم الاحترام والمسؤولية المجتمعية ضمن المناهج الدراسية، وهي ممارسات أساسية في التربية على المواطنة (Civic Education).
- قواعد السلوك والمواظبة: تفعيل قواعد السلوك داخل المؤسسات التعليمية (Sherif, 1936).
- القدوة الحسنة: التأكيد على دور الأسرة والمعلمين كمثال حي.
- الحملات التوعوية الشاملة: إطلاق حملات إعلامية مستمرة للتعريف بأهمية الذوق العام.
- ضبط المحتوى الإعلامي: اعتماد ضوابط للمحتوى الإعلامي والرقمي تمنع نشر أي محتوى يخدش الذوق العام (Gould, 2017).
- تكريم السلوكيات الإيجابية: الإشادة بالأفراد والمؤسسات التي تظهر التزاما عاليا بالذوق العام.
يختلف تطبيق الذوق العام بناء على المرجعية الثقافية والقانونية:
- عالميا (الدول الغربية): يغطى الذوق العام ضمن قوانين الآداب العامة (Public Decency) أو الإزعاج العام (Public Nuisance). المرجعية الأساسية هي حماية الحقوق الدستورية والحفاظ على النظام العام.
- عربيا (تعميق): يتم تطبيق أحكام الآداب العامة التي تستمد جذورها من الشريعة الإسلامية والأعراف الاجتماعية. وفي كثير من الدول العربية، يتم تناول الذوق العام في سياق التربية الأخلاقية والقيمية (المطيري، 2023)، حيث ينظر إليه على أنه جزء لا يتجزأ من مفهوم «الاحترام الاجتماعي» الذي ينظمه العرف بشكل أكبر من القانون المباشر. ومع ذلك، تشهد المنطقة تحولا نحو تفعيل الجانب القانوني لمواجهة تحديات العولمة و»الفضاءات المفتوحة» (العجمي، 2021).
- السعودية (نموذج نظامي): أصدرت المملكة «لائحة المحافظة على الذوق العام» بشكل نظامي واضح ومحدد (مجلس الوزراء السعودي، 2019)، كخطوة نوعية لفصل «الذوق العام» عن «الآداب العامة» التقليدية، بهدف دعم رؤية 2030 وجودة الحياة.
في الختام، يتضح أن الذوق العام ليس مجرد مجموعة من التعليمات الجامدة أو لائحة عقوبات قاسية، بل هو في جوهره فلسفة حياة ومسؤولية مشتركة تقع على عاتق كل فرد. عندما يرتفع سقف الذوق في مجتمع ما، فإننا لا نحقق فقط الالتزام بالقانون، بل نرسخ بيئة تعلي من قيمة الاحترام المتبادل، وتجعل الأماكن العامة مساحات للاطمئنان والجمال. إن الذوق العام هو مرآة تعكس نضجنا الحضاري وقدرتنا على التعايش المشترك.
لذا، فإن التحول من الأدب الفردي إلى النظام المجتمعي يبدأ بخطوة بسيطة: التزامك أنت. كن أنت القدوة التي تنشر هذا الرقي، تذكر أن أرقى أشكال الحرية هي تلك التي تحترم حدود الآخرين.
لنجعل الذوق سلوكا قبل أن يكون قانونا.
aabankhar@