الأزمة اللبنانية - انهيار دولة أم فرصة لإعادة البناء؟
الخميس - 04 ديسمبر 2025
Thu - 04 Dec 2025
ليست الأزمة اللبنانية مجرد سلسلة من الانهيارات المتلاحقة في العملة والنظام المصرفي والخدمات العامة، بل إنها في جوهرها أزمة نموذج سياسي اقتصادي بني منذ نهاية الحرب الأهلية وآن أوان استحقاقه، ومن هنا يصبح السؤال هل نحن أمام انهيار دولة يتجه إلى تفكك نهائي؟ أم أمام فرصة قاسية؟ لكن تاريخية لإعادة بناء الدولة من أساسها.
المتتبع للواقع اللبناني يدرك أنه منذ عام 2019 دخل لبنان في ما سماه البنك الدولي بـ(الانهيار المتعمد) أي أزمة لم تقع صدفة بل كانت نتيجة خيارات سياسية واقتصادية واعية استمرت لعقود نظام محاصصة طائفية زبائنية وفساد اقتصاد ريعي قائم على التحويلات والديون وتحالف عضوي بين السلطة السياسية والقطاع المصرفي، وهذا الانهيار ترجم نفسه في انهيار غير مسبوق للناتج المحلي وارتفاع الفقر إلى أكثر من نصف السكان وتآكل الطبقة الوسطى وهجرة كثيفة لأصحاب الكفاءات.
ثم جاءت سلسلة الصدمات التي جعلت الأزمة بنيوية لا ظرفية من الانهيار المالي والمصرفي، جائحة كورونا، انفجار مرفأ بيروت المروع عام 2020 الذي دمر قلب العاصمة وقتل أكثر من مئتي شخص وجرح الآلاف وشرد عشرات الآلاف من منازلهم دون أن توازيه حتى اليوم أي عملية محاسبة حقيقية رغم توقيفات وتحقيقات متعثرة وآخرها توقيف مالك السفينة المرتبطة بشحنة نيترات الأمونيوم في بلغاريا عام 2025 في خطوة قد تعيد بعض الزخم لمسار العدالة.
إلى ذلك انزلق البلد منذ أكتوبر 2023 إلى حرب مدمرة بين إسرائيل وحزب الله امتدت 14 شهرا، تخللتها غارات كثيفة ودمار واسع في الجنوب والبقاع وحتى في بعض البنى التحتية الوطنية، وتقدير البنك الدولي لحجم أضرار هذه الحرب وحدها يشير إلى خسائر اقتصادية تقدر بنحو 14 مليار دولار منها 6.8 مليارات أضرار مادية و7.2 مليارات خسائر إنتاجية، مع حاجة إلى نحو 11 مليار دولار لإعادة الإعمار والتعافي في بلد سبق أن كان في حالة انهيار قبل الحرب.
على مستوى الدولة يمكن القول إن مؤشرات الانهيار واضحة، مؤسسات رسمية عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية، كهرباء متقطعة، عملة فقدت معظم قيمتها، جهاز قضائي مثقل بالتجاذبات والضغوط السياسية، قطاع مصرفي متجمد يحتجز أموال الناس ويطبق قصة شعر غير معلنة على الودائع، إدارة عامة مشلولة وحدود جنوبية تحولت إلى ساحة حرب مفتوحة لعشرات الأشهر، تقارير دولية تحدثت بصراحة عن تفكك أركان الاقتصاد السياسي الذي حكم لبنان بعد الطوائف، وعن تآكل العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين.
ومع ذلك فإن لبنان ليس دولة منهارة بالكامل على الطريقة الصومالية، مثلا فهناك جيش لا يزال متماسكا، وحد أدنى من انتظام إداري وقدرة ملحوظة على الصمود الاجتماعي عبر شبكات العائلة والقرابة والدعم الأهلي والاغترابي، لكن هذا الصمود هو سيف ذو حدين، فهو من جهة يمنع الانهيار الكامل ومن جهة أخرى يسمح للطبقة السياسية بتأجيل الإصلاحات، إذ يبقي المجتمع في حالة شبه حياة فلا يموت النظام ولا يتعافى.
في قلب هذه المفارقة يبرز مشهد الطبقة الحاكمة، فبعد أكثر من عامين من فراغ رئاسي، ظل البرلمان عاجزا عن انتخاب رئيس وفشل في تمرير الإصلاحات المطلوبة للحصول على تمويل من صندوق النقد الدولي، رغم التوصل إلى اتفاق مبدئي على مستوى الخبراء منذ 2022، أحد أبرز المفاوضين اللبنانيين مع الصندوق صرح عام 2024 بأن البلاد ليست قريبة من تنفيذ الشروط المطلوبة بسبب غياب التوافق واستمرار حالة الحكومة المستقيلة وامتناع البرلمان عن التشريع الجدي.
غير أن موازين القوى هذه شهدت بداية تحول في 2025، فقد أفرزت الضغوط الداخلية والدولية إلى جانب تداعيات الحرب مع إسرائيل واقعا سياسيا جديدا توج بانتخاب رئيس جديد للجمهورية هو جوزيف عون، وتكليف القاضي السابق في محكمة العدل الدولية نواف سلام رئاسة الحكومة، وتشكيل حكومة وصفت بأنها أقرب إلى حكومة مهمة تركز على إعادة الإعمار والإصلاحات والالتزامات الدولية وإن ظلت خاضعة لمنطق المحاصصة وحسابات القوى التقليدية.
علما بأن هذه الحكومة رغم كل ما يمكن أن يقال عن تركيبتها تحمل في طياتها مفارقة هي من جهة محاولة لإعادة تدوير النظام عبر وجوه قديمة جديدة ومن جهة ثانية تعبير عن إدراك النخبة الحاكمة أن الأمور لا يمكن أن تستمر على ما كانت عليه، وأن الوصول إلى أموال إعادة الإعمار سواء من البنك الدولي الذي قدر كلفة التعافي بـ11 مليار دولار، أو من صندوق النقد الذي يجري التفاوض معه على برنامج جديد، أو من الدول المانحة، لن يتم من دون حد أدنى من الإصلاحات البنيوية.
هنا تحديدا يصبح السؤال هل يمكن تحويل الانهيار إلى فرصة لإعادة البناء أم أن كل حديث عن الفرصة ليس سوى تجميل لمسار سقوط طويل؟
ولكي تكون الأزمة فرصة لا بد من توافر مجموعة شروط مترابطة، أول هذه الشروط هو الاعتراف العلني بموت النموذج القديم لأنه حتى اليوم لا يزال جزء واسع من المنظومة يتصرف وكأن الأزمة عابرة، يراهن على نهاية الحروب وعودة التدفقات المالية الخليجية أو الاغترابية لإعادة تدوير عجلة الاقتصاد الريعي من دون إعادة هيكلة حقيقية للقطاع المصرفي ولا إصلاح ضريبي عادل ولا إعادة نظر في حجم الدولة ووظائفها وطريقة إنفاقها، أي إعادة إعمار لا تمر بإعادة تعريف أولويات الدولة ستتحول إلى عملية ترقيع عمراني فوق أرض سياسية متهالكة.
والشرط الثاني هو العدالة والمحاسبة لأن انفجار مرفأ بيروت ليس مجرد حادث بل لحظة تأسيسية في الوعي اللبناني الحديث، وإذا ترك ملف بهذا الحجم بلا محاسبة واضحة وبمحاولات مستمرة لتطويق التحقيق وتغيير المحققين، ثم يكتفى ببعض التوقيفات الخارجية أو التحقيقات الشكلية، يعني عمليا أن رسالة النظام لمواطنيه هي لا عدالة فوق السياسيين، وفي المقابل أي مسار جدي لإعادة البناء يجب أن يبدأ من ترسيخ مبدأ أن لا أحد فوق القانون وأن حقوق الضحايا ليست ورقة تفاوض إذا لم تتحول قضية المرفأ إلى نموذج لعدالة انتقالية حقيقية، فستبقى جرحا مفتوحا ينزف ثقة ويضعف شرعية أي مشروع لإعادة الإعمار.
والشرط الثالث هو إعادة تعريف العلاقة بين السلاح والدولة، نظرا لأن الحرب الأخيرة مع إسرائيل أظهرت مرة أخرى أن قرار السلم والحرب لا يزال خارج المؤسسات الرسمية إلى حد كبير، وأن أي مفاوضات لإعادة الإعمار واستقطاب الاستثمارات ستظل رهينة سؤال أساسي، من يقرر الحرب وهل يمكن الاستثمار في بلد قد يستيقظ على تصعيد عسكري جديد في أي لحظة؟ ولهذا المجتمع الدولي يربط اليوم بشكل واضح بين ضخ أموال الإعمار وبين تطبيق قرارات دولية تتعلق بحصر السلاح بيد الدولة وضبط الحدود، وإذا ظل هذا الملف يدور في حلقة الوفاق المستحيل بين حزب الله وباقي القوى فلن يكون ممكنا بناء دولة مستقرة بل إدارة توازن هش فوق برميل بارود.
والشرط الرابع هو صياغة عقد اجتماعي جديد يتجاوز المحاصصة الطائفية بوصفها القاعدة الوحيدة لتوزيع السلطة والموارد، ولا يعني ذلك بالضرورة نسف النظام من أساسه في ليلة واحدة، لكنه يعني نقل مركز الثقل تدريجيا من تمثيل الطوائف إلى تمثيل المواطنين، ويمكن أن يبدأ هذا المسار عبر قانون انتخابي مختلف وعبر تعزيز اللامركزية الإدارية والمالية وإصلاح القضاء وإعادة هيكلة الإدارة العامة على أساس الكفاءة لا الانتماء، لأن الأزمة الراهنة كشفت أن النظام الطائفي لا يحمي الجماعات كما يفترض، بل يحمي نخبة ضيقة تستثمر في خوف الجماعات بعضها من بعض.
وعلى الجانب الآخر من الصورة، ثمة مؤشرات وإن كانت خجولة على إمكانية تحويل الأزمة إلى مسار مختلف، وهي حيوية المجتمع المدني والمبادرات المحلية لإعادة الإعمار والدور المتزايد لبعض البلديات في تقديم الخدمات في ظل تراجع الدولة المركزية وانخراط الجاليات اللبنانية في الخارج في دعم مشاريع إنمائية وتعليمية وصحية عبر قنوات بديلة عن الدولة، وهذه كلها عناصر لبنان التاريخي بلد المجتمع الحي الذي يتجاوز دوما هشاشة الدولة لكنها مرة أخرى قد تتحول إلى بديل عن الدولة لا رافعة للدولة إذا لم تحتضن في إطار رؤية عامة.
والاقتصاد بدوره يمكن أن يكون مدخلا لإعادة البناء للأزمة العميقة التي أظهرت هشاشة نموذج الاقتصاد القائم على المصارف والريوع والخدمات غير الإنتاجية، في المقابل توفر إعادة الإعمار من الجنوب إلى مرفأ بيروت إلى البنية التحتية المدمرة فرصة لإعادة توجيه الاقتصاد نحو قطاعات إنتاجية الزراعة، الصناعة الخفيفة، اقتصاد المعرفة، الطاقة المتجددة، وإعادة تأهيل المرافئ والمطارات بما ينسجم مع موقع لبنان الجغرافي، ولكن هذا يتطلب سياسة صناعية وزراعية ومالية واضحة لا مجرد الشعارات حول تحويل لبنان إلى منصة إقليمية.
وفي هذا السياق يبرز أيضا دور الشركاء الدوليين، البنك الدولي، صندوق النقد، الاتحاد الأوروبي، الدول العربية والخليجية، وربما الصين وغيرها، وهؤلاء جميعا يدرسون اليوم كيفية الانخراط في إعادة إعمار لبنان لكنهم باتوا أقل استعدادا لتكرار نموذج الشيك المفتوح بلا إصلاحات كمؤتمرات باريس السابقة، ولهذا فإن المساعدات اليوم مشروطة بإعادة هيكلة الدين وإصلاح القطاع المصرفي ومكافحة الفساد وتوحيد سعر الصرف وإصلاح قطاع الكهرباء وتعزيز الحوكمة، وهذه الشرطية قد تقرأ بوصفها انتقاصا من السيادة، لكنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون فرصة لفرض إصلاحات كانت قوى داخلية عاجزة عن تمريرها من دون غطاء خارجي، والسؤال: هل ستستثمر هذه الضغوط لمصلحة بناء دولة حديثة أم ستستخدم ذريعة لتبرير مزيد من التقشف على الفئات الأضعف؟
وفي العمق فإن الأزمة اللبنانية ليست قصة أرقام فقط بل أيضا قصة معنى، معنى أن تكون مواطنا في دولة لا تؤمن لك أبسط حقوقك، معنى أن تستمر النخب نفسها في الحكم رغم فشلها المتكرر، معنى أن يرى جيل كامل مستقبله في الهجرة لا في الإصلاح، وهنا يصبح إعادة البناء مفهوما يتجاوز الإسمنت والحديد إلى إعادة بناء الثقة، ثقة المواطن بالدولة وثقة الدولة بنفسها وثقة العالم بلبنان، من دون هذه الثقة ستظل كل خطة إعادة إعمار مهددة بالانقلاب عليها عند أول أزمة جديدة.
إذن هل نحن أمام انهيار دولة أم أمام فرصة لإعادة بنائها؟ الجواب الواقعي أن لبنان يقف على الحافة بين الخيارين، كل العناصر الموضوعية لانهيار عميق وممتد موجودة، لأن هناك اقتصادا منكشفا ونخبا غير مستعدة للتنازل وسلاحا خارج الدولة وانقسامات طائفية حادة ومحيطا إقليميا مضطربا، وفي المقابل ثمة عناصر صمود لا تزال فاعلة، وهو مجتمع نابض وموقع جغرافي مهم وشبكة اغتراب واسعة ونافذة دولية، والدعم المترافق مع الإصلاحات.
والفرق بين أن تتحول الأزمة إلى انهيار نهائي أو إلى لحظة تأسيس جديدة لن تصنعه المؤتمرات الدولية ولا التقارير الاقتصادية فحسب، بل سيصنعه أساسا ميزان القوى داخل لبنان بين من يريد استعادة النظام القديم مع بعض التعديلات الشكلية، ومن يرى أن الفرصة الوحيدة للنجاة تكمن في شجاعة الذهاب إلى عمق المشكلة الذي هو نظام سياسي طائفي يحتاج إلى إعادة تعريف، واقتصاد ريعي يحتاج إلى قلب الأولويات، وعدالة غائبة تحتاج إلى أن تصبح نقطة البداية لا التفصيل.
لهذا لبنان اليوم ليس ضحية قدر جغرافي محتوم بل ضحية خيارات، وإذا كان الانهيار نتيجة خيارات متعمدة فإن الخروج منه أيضا لن يكون صدفة بل يحتاج إلى قرارات جريئة بالاتجاه المعاكس، عندها فقط يمكن القول إن هذه الكارثة كانت رغم فداحتها فرصة لإعادة البناء لا مجرد محطة أخرى في مسلسل طويل من الانحدار.
alatif1969@