نبيل عبدالحفيظ الحكمي

حكاية «قرص صغير» غير تاريخ تخفيف الآلام

الخميس - 04 ديسمبر 2025

Thu - 04 Dec 2025


يعد «الباراسيتامول» (Paracetamol)، المعروف أيضا باسم «الأسيتامينوفين» (Acetaminophen)، أحد أشهر الأدوية المسكنة والخافضة للحرارة على مستوى العالم. تم اكتشاف مادة الباراسيتامول (الأسيتامينوفين) للمرة الأولى على يد الكيميائي الأمريكي هارمون نورثروب مورس (Harmon Northrop Morse) في عام 1878، ولكن لم يتم استخدامه كمسكن للألم وخافض للحرارة إلا بعد أبحاث إضافية أجريت في عام 1887 على يد الكيميائي الألماني جوزيف فون ميرينغ (Joseph von Mering). حيث قام فون ميرينغ بتجربة المادة ووجد أن لديها خصائص مسكنة للألم وخافضة للحرارة، ولكن في البداية لم تنتشر المادة بشكل كبير بسبب تفضيل أدوية أخرى مثل الأسبرين. لم يتم الاستخدام الواسع للباراسيتامول إلا بعد منتصف القرن العشرين، تحديدا من خمسينيات القرن الماضي، عندما تم الاعتراف بمأمونيته وفاعليته، وبدأت شركات الأدوية في تسويقه تحت أسماء تجارية شهيرة مثل بانادول (Panadol) وتايلينول (Tylenol).

على الصعيد العلمي عزيزي القارئ، يعمل الباراسيتامول في المقام الأول على الجهاز العصبي المركزي، حيث يثبط إنزيمات معينة تنتج المركبات المسؤولة عن الشعور بالألم وارتفاع الحرارة. ورغم أن آلية عمله الكاملة ما زالت محور أبحاث ودراسات متواصلة، فإن الرأي الطبي السائد يؤكد تركيزه على مراكز الحرارة في منطقة تحت المهاد (الهيبوثلاموس) إضافة إلى تأثيره في النواقل الكيميائية الحسية، ما يجعله قادرا على الحد من الأوجاع الطفيفة إلى المتوسطة، وتخفيض الحمى بكفاءة جيدة. وتشير بعض الأبحاث الحديثة أيضا إلى دور أنزيمات الكبد «السيتوكروم» في استقلاب الباراسيتامول وتحويله إلى نواتج فرعية أقل ضررا عندما يستخدم بالجرعات الموصى بها.

من الناحية الإحصائية، أدرجت منظمة الصحة العالمية الباراسيتامول ضمن قائمة الأدوية الأساسية الموصى بتوفيرها في الأنظمة الصحية، نظرا لتكلفته المناسبة وفعاليته في علاج الأعراض الشائعة. ووفقا لتقديرات نشرتها شركة IQVIA لرصد إحصائيات أسواق الأدوية العالمية عام 2021، فإن حجم الاستهلاك العالمي لهذا العقار تجاوز 50 مليار قرص سنويا، مع ارتفاع ملحوظ في مناطق كآسيا وأمريكا اللاتينية، مدفوعا بزيادة الوعي الصحي واتساع نطاق توفر الدواء بأسعار في متناول اليد. ويعد الباراسيتامول في صدارة الأدوية التي تباع دون وصفة طبية، ما يفسر انتشاره الكبير بين مختلف الفئات العمرية.

ومع هذا الانتشار الواسع، برزت تحديات تتعلق بضرورة الالتزام بالجرعات الموصى بها (عادة ما ينصح الأطباء بألا تتخطى أربعة غرامات يوميا للبالغين الأصحاء). ففي حين أن الباراسيتامول يتمتع بسمعة طيبة كدواء آمن وفعال، فإن الجرعة الزائدة تشكل خطرا كبيرا على صحة الكبد. وتؤكد تقارير إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) أن الباراسيتامول أحد أبرز مسببات حالات الفشل الكبدي الحاد في الولايات المتحدة، إذ يزيد عدد حالات التسمم المرتبطة به عن خمسين ألف حالة سنويا. ورغم أن المؤسسات الصحية تشدد على أن الالتزام بالجرعات الصحيحة يجعل مخاطر تلف الكبد طفيفة جدا، فإن المشكلة الأساسية تكمن في تكرار الجرعة الزائدة سواء بشكل عرضي أو متعمد، وأيضا في توافره بعدة أشكال دوائية.

من هنا تأتي أهمية وعي المستهلك بضرورة الانتباه إلى المستحضرات التي تحتوي على الباراسيتامول، مثل أدوية نزلات البرد والإنفلونزا والمسكنات المركبة.

إذ ربما لا يلاحظ البعض تجاوز الحد اليومي من الباراسيتامول بسبب تعدد مصادره الدوائية. كما يوصى كبار السن ومرضى الكبد والكلى باستشارة المختصين قبل تناوله بشكل منتظم لتفادي أي مضاعفات صحية محتملة.

بالرغم من كل هذه التحذيرات عزيزي القارئ، يظل الباراسيتامول دواء محوريا في المنظومة الطبية الحديثة؛ فهو يوفر خيارا فعالا لمواجهة الألم البسيط والمتوسط وخفض الحرارة دون التسبب عادة في اضطرابات معدية شائعة مثل تلك التي ترتبط بمضادات الالتهاب غير الستيرويدية. وعلى الصعيد الاقتصادي، تشير بيانات مجموعة أبحاث صحية في الشرق الأوسط (صادرة عام 2020) إلى أن ثمانية من كل عشرة أطباء يوصون بالباراسيتامول كخيار أول لتخفيف الحمى والأوجاع البسيطة، لا سيما للأطفال والحوامل، مما يعكس مكانته الراسخة في ثقافة الرعاية الصحية.

إن قصة الباراسيتامول، هي رحلة امتدت لأكثر من قرن، بدءا من مختبرات البحث التي أتاحت تركيب المادة في أواخر القرن التاسع عشر، مرورا بتبنيها بصورة أوسع في خمسينيات القرن الماضي، وحتى وصولها اليوم إلى قائمة الأدوية الأساسية العالمية. وما دامت التوعية باحترام الجرعات الموصى بها قائمة، سيظل هذا العقار يمثل حجر الزاوية في تخفيف آلام الناس وخفض حرارتهم بطريقة آمنة وفعالة، محافظا على دوره الحيوي في الطب الحديث.

nabilalhakamy@