بسمة السيوفي

أصبر وأسكت

الثلاثاء - 02 ديسمبر 2025

Tue - 02 Dec 2025



أخطر ما يصيب الإنسان اليوم هو تبرير الألم، فقد تجري المقادير بالعنا، وقد يقول قائل ما الذي فعلته أنا؟ ولماذا أنا دون غيري؟ وهو الغافل الغارق في بحور النعم التي وهبها الله له. الحياة تعلمنا أن كل ما حسبناه مضمونا قد ينهار فجأة: وظيفة أحببناها، بيت آمن، جسد معافى، خذلان المقربين، أو حتى ضياع المعنى من الحياة. قد يفشل مشروع صغير، أو يبادلنا الآخرون بالقطيعة. غير أن هناك من ينهض شامخا بعد السقوط، فالبشر يتشابهون في العجز لكن الحكايات تختلف عند النهوض.

بين هذا كله تقف حكمة يابانية قديمة اسمها «شيكاتا غاناي ga nai Shikata»؛ تجسد فلسفة القبول والتكيف مع الواقع عندما يعجز الإنسان عن تحسين الظروف، وترجمته الحرفية «لا يمكن تغييره»، أي التسليم دون استسلام سلبي، والوقوف على عتبة الرضا لمواجهة المصاعب بثبات. وقد جسد اليابانيون هذا المبدأ في مواجهة الكوارث، وكان زلزال تسونامي 2011 نموذجا عالميا لافتا؛ حيث ، صمم الناجون على النهوض دون فوضى أو غضب، فاقترن التقبل بالفعل المباشر لإزالة الركام ومواساة الآخرين.

تعلمنا الدنيا أن الأشياء التي نقاومها ستلاحقنا، بينما يلعب التقبل دورا جوهريا في التعافي النفسي. ففي العلاقات الشخصية، سواء كانت صداقة، أو حبا، أو روابط أسرية، تحدث أمور خارجة عن إرادتنا، فنحاول تعديل سلوك الآخرين أو منع علاقة من الانهيار، ثم نكتشف أن المشاعر والقرارات خارج نطاق تحكمنا. تشير تقارير نفسية عالمية حديثة إلى أن غالبية البشر مروا بتجربة كسر قلب واحدة على الأقل. فما الذي تحاول مقاومته اليوم، بينما تعلم أنه خارج نطاق التغيير؟

أما عن الفقدان وتقبل رحيل الأحبة، فهو الامتحان الأشد لفلسفة الاستسلام الواعي للمشيئة الإلهية، وهي تجربة إنسانية قاسية لا يكاد شخص ينجو منها، فالموت يحصد سنويا ملايين الأرواح. في عام 2023 وحده توفي أكثر من 61 مليون إنسان حول العالم، تاركين خلفهم أضعاف هذا الرقم في دائرة الحزن مع عجز كامل أمام الموت، فلا علم ولا قوة ولا مال يعيد الراحلين. يمر المكلوم بمراحل الإنكار والغضب والاكتئاب، إلى أن يصل إلى مرحلة التسليم، حيث تبدأ رحلة الشفاء. الفقد لا يلغي الحزن، والدموع قوة، لكن أفضل ما يمكن فعله هو الخروج من عباءة الوجع واستمداد الثبات من الحب والذكريات.

أحيانا يكون الألم في ضياع معنى الحياة نفسه؛ فلا ملامح واضحة، ولا اتجاه محدد، فتلاحقنا الحسرة حتى تغدو ظلا ثقيلا. يحدث ذلك حين يرفض الوعي الاعتراف، فيتضاعف شعور الخسارة بدلا من أن يتصاغر، فنظن أننا نطرد الألم خارج الذاكرة، بينما نقوم فعليا بدفعه إلى أعمق زوايا النفس، حيث يترسب بصمت.

أما عن تطبيق مبدأ «شيكاتا غاناي» في حياتنا، فالسؤال الأبسط هو: ما الخطوة الصغيرة التي يمكنك القيام بها اليوم في دائرة ما تستطيع تغييره؟ ما يدخل في دائرة قدرتنا لا يحتاج معجزات، بل وعيا بسيطا: لحظة هدوء، تحديد ما يثقل الداخل، والتمييز بين ما يقع تحت السيطرة وما يقع خارجها. الانشغال بعمل أو هواية أو ممارسة يومية، كلها خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح.

ليس كل من قال: هذا قدري، كان يمارس الصبر... بعضهم كان مستسلما فقط. ويظل التمييز بوضوح بين التقبل الواعي Active Acceptance والاستسلام السلبي أمرا جوهريا، فكلاهما يبدو استجابة للواقع، لكن الفارق بينهما هو الفارق بين القوة والضعف. «شيكاتا غاناي» لا يعني التطبيع مع الظلم، أو تبرير العنف الأسري، أو السكوت عن الفساد، أو الانحناء، فهناك خطورة للفهم الخطأ. الصبر والسكوت هو قرار إرادي يتخذه الإنسان المتماسك، مع احتفاظه بمساحة للتغيير، كمن يقول هذا هو واقعي، فما الذي علي أن أفعل؟ أما الاستسلام السلبي فهو انسحاب داخلي يرافقه اعتقاد بأن «لا فائدة، انتهى كل شيء» وعليه غلق كل الأبواب.

أسوأ ما فعلناه بأنفسنا أننا سمينا الخوف صبرا، وبالغنا في تمجيد الصبر حتى صرنا، أحيانا، نخجل من المطالبة بحقوقنا. فالصبر، في جوهره وعي بكيفية التصرف أثناء الانتظار، وهو تصالح مع ما لا يمكن تغييره. فما بين الصبر والفعل تتبدل الأقدار، ويخلق الله ما لا نعلم. فمتى يكون القبول هو الفعل الأكثر شجاعة؟