ثقافة الظهور المستمر...
الأحد - 30 نوفمبر 2025
Sun - 30 Nov 2025
هناك شيء غريب يحدث حولنا.
لم يعد الناس يكتفون بالعيش، بل يريدون أن يظهروا وهم يعيشون.
كل نشاط بسيط، كل لحظة عادية، كل شعور عابر... يذهب مباشرة إلى الكاميرا.
وكأن الحياة فقدت قيمتها دون جمهور يشاهدها.
هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك اجتماعي جديد؛ إنها نظام كامل يعيد تشكيل طريقة فهمنا لأنفسنا. فالفرد لم يعد يقيس لحظاته بما عاشه، بل بما نشره. كثير من يلتقط صورا أكثر مما يلتقط خبرات. يخطط لزاوية التصوير قبل أن يفكر في التجربة نفسها. ويتعامل مع الوقت كما لو كان مادة خام لصناعة محتوى، لا مساحة يمكن أن تعاش بطمأنينة.
عندما نتأمل الأمر بعمق، نكتشف أن الظهور المستمر ليس رغبة بالتعبير، بل بحث عن اعتراف. فالإعجاب، وإعادة النشر، والتفاعل اللحظي تمنح إحساسا سريعا بالقبول، حتى لو كان هشا، وحتى لو انطفأ بمجرد هبوط الأرقام. هناك شخص يجلس في مطعم فاخر، لا يستمتع بالمكان، لأنه يسجل فيديو يثبت أنه موجود. شخص آخر يشارك أفكاره بلا توقف، ليس لأنه يجد ضرورة للقول، بل لأنه يخشى أن يختفي من ذاكرة الآخرين إن صمت يوما واحدا.
ومع مرور الوقت، يتحول هذا النمط إلى سلوك يعاد بشكل تلقائي. لم يعد السؤال «هل أريد أن أظهر؟» بل أصبح «كيف سأظهر اليوم؟».
تتبدل الأولويات، ويتراجع الجانب الشخصي لصالح الجانب العلني، ويختلط الخاص بالعام إلى درجة يصعب فيها الفصل بينهما.
الإعلام الرقمي شجع هذه الموجة بشكل ملحوظ، لكنه لم يصنعها وحده. فالمنصات قدمت الأدوات، والنظام الاجتماعي وفر الدوافع، والإنسان نفسه كمل الحاجة: الحاجة إلى أن يشعر بأن مكانه محفوظ وسط ضجيج العالم. وفي بيئة تنافسية كهذه، يصبح الظهور أشبه بعملية بقاء، حيث يخشى البعض من الغياب أكثر مما يخشون من الخطأ.
لكن هذا الحضور المستمر يترك ندوبا صغيرة لا نلتفت لها. فالتوتر الناتج عن محاولة الاستمرارية يستهلك طاقة الذهن. والخوف من التراجع يعيد تشكيل العلاقات. وحتى الفرح الحقيقي يفقد شيئا من طبيعته حين يتحول إلى مادة قابلة للقياس. نحن نعيش اللحظة ونراقبها في الوقت نفسه، وهذا تناقض يستنزف الشعور ويعطله.
وفي الخلفية، تظهر مفارقة لافتة: كلما ازداد حضور الناس على المنصات، ازداد غيابهم عن ذواتهم. فيصبح الشخص مرئيا للجميع، وغير قادر على رؤية نفسه كما هي. وكل شيء يتحول إلى عرض. وكل عرض يحتاج تصفيقا حتى يستمر.
هل هذا يعني أن ننسحب من العالم الرقمي؟
ليس بالضرورة.
القضية ليست في الظهور نفسه، بل في وتيرته ودوافعه والثمن الذي ندفعه لقاءه. فمن الطبيعي أن نشارك لحظاتنا، لكن من الخطير أن نعيش لأجل المشاركة فقط. من الطبيعي أن نحب التفاعل، لكن من المرهق أن نعتبره معيارا للوجود. ومن الطبيعي أن نرغب في الاعتراف، لكن من المؤلم أن نربط قيمتنا به.
ربما نحتاج إلى خطوة صغيرة للخلف، لا انسحابا كاملا، بل مساحة تنفس. أن نسمح للحياة بأن تعاش دون جمهور. أن نجرب لحظة لا يعرف عنها أحد. أن نلتقط صورة لا ننشرها. أن نكتب جملة نحتفظ بها لأنفسنا. وأن نسمح للصمت بأن يكون جزءا من هويتنا، لا تهديدا لها.
يبقى السؤال هل نريد حياة نعيشها؟ أم حياة نعرضها للجميع؟
وما المسافة التي تفصل بين الاثنتين؟