الذكاء الاصطناعي والمالية الإسلامية (سلاح ذو حدين)
الأحد - 30 نوفمبر 2025
Sun - 30 Nov 2025
يشهد القطاع المالي العالمي تحولا جذريا مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي الذي أصبح جزءا أساسيا من البنية التشغيلية للمؤسسات المالية. ومع دخول هذه التقنيات إلى البنوك الإسلامية، يزداد الاهتمام بدراسة أثرها على المعاملات المالية الإسلامية ومدى انسجامها مع القواعد والضوابط الفقهية التي تضبط المسار. فالذكاء الاصطناعي - بقدر ما يقدم مزايا واضحة في الكفاءة وتحسين إدارة المخاطر - يحمل في طياته مجموعة من التحديات التي تحتاج إلى ضبط شرعي دقيق حتى لا تتحول إلى مداخل للربا أو الغرر أو الجهالة أو الإضرار بالمتعاملين. لقد أسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين جوانب عدة داخل المؤسسات المالية الإسلامية، أبرزها القدرة على تحليل البيانات الهائلة التي يمتلكها البنك، مما يساعد على تقييم العملاء بدقة أعلى، وتقليل حالات التعثر، وتقديم المنتجات المناسبة لكل عميل بناء على احتياجاته. كما فتحت هذه التقنيات بابا واسعا لاكتشاف الاحتيال المالي، حيث تستطيع الخوارزميات الذكية رصد الأنماط غير المعتادة في حسابات العملاء، مما يساعد على منع عمليات التحايل التي قد تؤدي إلى نزاعات مالية أو مخالفات شرعية. إضافة إلى ذلك، أصبح للذكاء الاصطناعي دور مهم في إدارة السيولة، وهي من أكثر القضايا حساسية في القطاع الإسلامي بسبب عدم التعامل بالفائدة؛ إذ تحلل الأنظمة الذكية تدفقات الأموال، وتحديد الاحتياجات المستقبلية، وتقييم مخاطر الاستثمار في الصكوك والمنتجات الشرعية.
ومع توسع هذه التطبيقات، برزت فائدة أخرى تتمثل في قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل العقود المالية والتحقق من مدى توافقها مع معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (أيوفي)، مما يسهم في تقليل الأخطاء الشرعية في الصياغة أو التطبيق. ويضاف إلى ذلك قدرتها على تسريع العمليات الداخلية، وخفض التكلفة التشغيلية، وتقديم خدمات مالية أكبر دون الحاجة إلى توسع بشري مواز، مما يمنح البنوك الإسلامية قدرة تنافسية عالية مقارنة بالمؤسسات التقليدية (الربوية)، ومع ذلك، فإن إدخال الذكاء الاصطناعي إلى قطاع حساس كالمالية الإسلامية لا بد أن ينظر إليه بحذر، لما يحتويه من مخاطر شرعية جوهرية قد تخالف قواعد الفقه الإسلامي إن لم تضبط ضبطا صحيحا. وتأتي أولى هذه المخاطر فيما يتعلق بالغرر والجهالة، حيث تعتمد بعض نماذج الذكاء الاصطناعي على خوارزميات يصعب معرفة الأسس التي تبني عليها قراراتها، وهو ما يعرف بـ«خوارزميات الصندوق الأسود». فإذا كانت المؤسسة تمنح تمويلا أو تقرر صلاحية العميل استنادا إلى نظام لا يمكن تفسيره تفسيرا كاملا، فقد يؤدي ذلك إلى جهالة مؤثرة في العقد، إذ يجهل طرفا التعاقد الأساس الذي بني عليه القرار، الأمر الذي يمس شرط الشفافية وانعدام الجهالة المعتبر شرعا في المعاملات.
ومن المخاطر كذلك مخاطر الربا غير المباشر، وذلك عندما تبنى النماذج الخوارزمية على بيانات أو نماذج مالية تقليدية تعتمد على الفائدة الربوية أو أساليب الخصم الربوية، فتسقطها المؤسسات - دون قصد - على منتجات التمويل الإسلامي. وقد يؤدي ذلك إلى تشويه المنتج الإسلامي أو إلى مزج عناصر ربوية داخل نظام اتخاذ القرار، مما يجعل القرار الشرعي عرضة للتلوث بمؤثرات غير متوافقة مع الشريعة. وهذه القضية تعد من أدق القضايا التي تحتاج إلى رقابة شرعية تقنية متقدمة.
ومن المحاذير التي يثيرها الذكاء الاصطناعي كذلك مخاطر الخصوصية وحماية بيانات العملاء، فالبيانات في المنظور الإسلامي ليست مجرد معلومات تقنية، بل ترتبط بأحكام شرعية متعلقة بحفظ النفس والعرض والمال. فإذا استخدمت بيانات العميل في غير موضعها، أو سربت، أو فسرت بشكل خاطئ، فقد يترتب على ذلك ضرر مالي أو اجتماعي، وهو ما يتعارض صراحة مع القواعد الشرعية التي تحرم الإضرار بالغير، ومع قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». ومع كثرة اعتماد الأنظمة الذكية على بيانات ضخمة، يصبح احتمال وقوع الخطأ أو الاختراق أعلى مما هو عليه في النظم التقليدية.
يبرز كذلك خطر التحيز الخوارزمي، وهو خطر لم يعد نظريا، بل أثبتت الدراسات التقنية وجوده في كثير من الأنظمة حول العالم. فلو اعتمدت البنوك الإسلامية على أنظمة ذكاء اصطناعي متحيزة في تقييم العملاء، فقد يؤدي ذلك إلى ظلم شرائح معينة دون مبرر شرعي أو قانوني. والعدالة أصل مقاصدي ثابت في الشريعة الإسلامية، والتحيز يعد لونا من ألوان الظلم الذي يناقض مقاصد الشريعة والعقود الإسلامية.
من الأخطار أيضا غياب الإشراف الشرعي المتخصص على بنية الخوارزميات. فالمؤسسات الإسلامية تمتلك هيئات شرعية تشرف على المنتجات والعقود، لكنها غالبا لا تشرف على الأكواد والنظم الذكية التي تطبق هذه العقود. وهذا يشكل فجوة خطيرة؛ لأن الخوارزمية إذا احتوت على خطأ شرعي صغير، فإنه قد يعاد تطبيقه آلاف المرات دون أن يلاحظه أحد. وهذا النوع من الأخطاء يختلف عن الأخطاء البشرية؛ لأنه خطأ «متكرر آليا»، ولذلك يجب معرفة اللجان الشرعية بهذا التخصص ووجود مستشارين متمكنين في ذلك لتلافي الأخطاء الخوارزمية، ويتسع نطاق المخاطر كذلك ليشمل تغيير طبيعة القرار الشرعي نفسه؛ إذ قد تتجه بعض المؤسسات للاعتماد على الأنظمة الذكية في اتخاذ قرارات شرعية تتعلق بمدى مطابقة المنتج للشريعة، دون وجود اجتهاد بشري مباشر. وهذا الأمر يخشى منه؛ لأن الذكاء الاصطناعي لا يمتلك القدرة على فهم المقاصد الشرعية أو إدراك العلل الفقهية الدقيقة التي يعتمد عليها الفقيه في إصدار الحكم. فإذا استبدل الاجتهاد الإنساني بالتحليل الآلي، فقد تتغير طبيعة الفتوى المالية وتفقد روحها وعمقها المقاصدي والفقهي، ويضاف إلى هذه المحاذير خطر الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي، إذ قد يؤدي الاعتماد الزائد إلى تراجع القدرة الاجتهادية لدى الهيئات الشرعية، واعتمادها على ما تنتجه الخوارزميات، مما يفقد التمويل الإسلامي ميزته الجوهرية القائمة على الاجتهاد الفقهي المستمر.
ومع كل هذه المخاطر، يبقى الذكاء الاصطناعي فرصة كبيرة لتطوير المالية الإسلامية، بشرط وضع ضوابط واضحة وفعالة، من أهمها ضرورة الشفافية في عمل الخوارزميات، وإخضاعها لمراجعة شرعية تقنية مشتركة، وضبط استخدام بيانات العملاء، وضمان عدالة النماذج وتوافقها مع مقاصد الشريعة، وتوثيق جميع قرارات الأنظمة الذكية لضمان إمكانية مراجعتها. كما يجب تعزيز دور الهيئات الشرعية في الرقابة التقنية، وتطوير أدوات شرعية رقمية قادرة على مواكبة هذا التغير السريع.
في الختام، فإن الذكاء الاصطناعي يمثل إضافة مهمة لمسيرة المالية الإسلامية، لكنه يظل سلاحا ذا حدين، لا يمكن الاستفادة من منافعه إلا إذا توفرت له حوكمة شرعية دقيقة توازن بين الابتكار والالتزام الشرعي. فالتقدم التقني يجب أن يكون وسيلة لخدمة مقاصد الشريعة، لا سببا لانحراف المعاملات عنها. وبقدر ما تمنح هذه التقنية من قوة وكفاءة للمؤسسات المالية الإسلامية، فإنها تتطلب وعيا أكبر ومسؤولية أشد لضمان أن تبقى المعاملات المالية الإسلامية محافظة على روحها ومبادئها الأصيلة في العدالة، والشفافية، وصيانة حقوق الناس.