بسمة السيوفي

شياطين رأسي...

الثلاثاء - 25 نوفمبر 2025

Tue - 25 Nov 2025


العواصف في رؤوسنا تحتاج دوما إلى أسباب؛ فما إن نجلس وحدنا حتى تأتي الأفكار وتذهب على هواها... وأعوذ بالله من الوساوس التي لا تستأذن بالدخول، ولا تقف أمامي بشجاعة، إنما تتمدد في مخيلتي كحبال اللوبياء، متسللة على هيئة خاطرة، أو ذكرى، أو احتمال. تلك هي الهواجس والتوقعات والخيبات... أشد شياطين الرأس مكرا وخداعا، وأبطال التراجيديا الخناسة، لأنها تظهر فقط حين نكون في أمس الحاجة إلى الأمل.

تتخذ شياطين الفكر صورا متنوعة عبر تجاربنا الذهنية اليومية، قد نمر بها دون إدراك أو وعي. أولها خطرا: شيطان الاحتمالات، ذلك الذي يتشكل من أسوأ ما يمكن أن يحدث. غذاؤه القلق، ومسكنه المسافة الفاصلة بين الفعل والتفكير.

ويفسر علميا بفرط نشاط القشرة الجبهية الداخلية المرتبطة بالتنبؤات السلبية مثل: ماذا لو فشلت؟ ماذا لو لم يحبني أحد؟ ماذا لو لم يكن الغد كما توقعت؟
يليه شيطان التكرار، الذي يعيد علينا المشاهد القديمة بلا رحمة. اجترار ذهني Rumination يسبب التوتر والاكتئاب، لأنه يعطل القدرة على العيش في الحاضر. ثم يظهر شيطان المثالية، الذي يقنعنا أن «الأفضل» هو المعيار الوحيد، وأن الرضا ممنوع، والراحة مرفوضة قبل الكمال، فيجب ألا نخطئ... ويجب أن يحبنا الجميع. نمط يرتبط باضطرابات القلق وتدني تقدير الذات، ويقيد النفس في قالب لا يليق إلا بكمال الذات الإلهية.

ثم يجيء شيطان المقارنة، ذلك الزائر الأثيم الذي تكفيه خيبة أمل صغيرة ليجرنا إلى التركيز في حياة الآخرين، فنقيس عليها كل شيء: نجاحاتنا، علاقاتنا، وحتى أحزاننا. يمنحنا عدسة مختلة لفكر الضحية فتكبر عيوبنا وتصغر ما حققناه. جذور هذا الشعور تعود إلى نفس تربت على الخوف قبل الحب، والطاعة قبل الوعي، والمقارنة قبل القبول، لتصبح أرضا خصبة للحسرة، وأنه بالرغم من كل ما نبذله للآخرين.. لسنا كفاية.

هناك شيطان آخر أكثر لطفا وخبثا... لا يعارضني كثيرا، إنما يهمس: تأقلمي...لا ترفضي... لا تطلبي الكثير. إنه شيطان التكيف المفرط؛ يقنعنا أن البقاء في منطقة الراحة أكثر أمانا. يعرف في علم النفس بالعجز المكتسب، حيث يظهر في صورة البطل الذي يموت كل يوم لأنه لا يعترض.

هذه الشياطين ليست إلا ما تحدث عنه كارل يونج باعتباره «الظل» الذي نحمله في أعماقنا، أو ما وصفته الوجودية بصراع الذات مع عبء الوعي. وهذا المعنى يجد صداه في التراث الإسلامي، حيث تعتبر شياطين النفس وساوس تضلل الإنسان عن مساره الفطري وتضعف بصيرته الأخلاقية لتجره نحو الهوى والرذائل. «فإذا ضعف نظر العقل غلب عليه التخيل»، كما يقول ابن رشد. أما علم النفس الحديث فيعيد تفسير هذه الأصوات على أنها عمليات معرفية تتشكل من تجارب الطفولة والصدمات المتراكمة؛ أي أنها اضطراب في التفسير والتوقع.

المهم أن هذه الشياطين تزورنا ولا نعلم إلى أين تذهب؟ أثق أنها تتسلل لتحقق لنا بعض التوازن، فالعقل لا يستقيل، كل ما في الأمر أنها انعكاسات لتجاربنا، وبقايا من التربية، أو نتاج ثقافة تضغط علينا حتى الاختناق. لكن الأهم والأخطر: أنها لا يجب أن تبقى معنا إلى الأبد. سلاحنا هو الوعي، والحوار، وتسمية هذه الأفكار بأسمائها، حتى نعيدها إلى حجمها الحقيقي، ونستعيد بحرية مساحتنا الأصلية.

غير أن هذا كله يظل جزءا من صراع الإنسان مع نفسه... إلى أن جاءت التقنية لتقحم نفسها في هذا الصراع، وتعيد تشكيله بطرق غير متوقعة، كأن يصبح لأفكارك صوت. تخيل أن هواجس رأسك ستصبح نسخة ذكية تتحدث بلسانك وتعرف نواياك قبلك. وسيكون مصدر الصوت الداخلي ذكاء اصطناعيا... هذا بالضبط ما يقدمه نظام ميراي Mirai: ضمير صناعي يذكرك ويخبرك بما ستفعل، عبر إرسال رسائل تطابق صوتك، تعتمد على كاميرا وميكروفون يراقبان حياتك لحظة بلحظة. هي تقنيات استنساخ رقمي متقدمة، تطورها اليوم مختبرات الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI و Google، لتقرأ السلوك وتلتقط النوايا... فيصبح التوجيه والضغط للالتزام أمرين واقعيين يتشكلان أمامنا تدريجيا.

وهنا تتعقد الصورة أكثر؛ فقد نفتح الباب طوعا لأشباح رقمية جديدة، تمتزج فيها «ميراي» مع «بشكة» شياطين الرأس، حتى لا نعود نعرف إن كانت قراراتنا ستبقى فعلا قراراتنا. تخيل أن تخاطب نفسك بصوتك، لكنك لست المتحدث؛ نسخة ذكية تقرأ نواياك وتخبرك بقرارك. إنه مشهد معاصر للملاك والشيطان على الكتفين: أحدهما يعظك، والآخر يغريك، فيما تظن أنك صاحب القرار. الحقيقة أبسط وأكثر قسوة من كل هذا؛ فنحن سنظل دائما وجها لوجه مع شياطيننا، الوعي لا يمحوها تماما، وبعضها ليس شرا خالصا، لكنها تلقي السمع... وأكثرها كاذب.

فيا شياطين رأسي... اتركوني أنتم وكل الأصوات القديمة، خذوا معكم الضعف، والحيرة، والهوان.

فأنا الحكاية، وأنا الراوي، وأعوذ بالله من شر ما أجد وأحاذر.

smileofswords@