حين يصبح الطين ذاكرة… ورحلة شفاء
من لعبة طفولة إلى حرفة تُرمّم الروح… قصة حميد القحطاني بين العلاج والفن في "بَنّان"
من لعبة طفولة إلى حرفة تُرمّم الروح… قصة حميد القحطاني بين العلاج والفن في "بَنّان"
الثلاثاء - 25 نوفمبر 2025
Tue - 25 Nov 2025
لم يكن حميد القحطاني يتخيّل أن اللقطات الصغيرة التي عاشها في طفولته—حين كان يخرج بعد المطر ليغمس يديه في الطين ويصنع أشكالًا لا يعرف معناها—ستتحول بعد سنوات طويلة إلى مشروع حياة. وبينما يقف اليوم في ركنه داخل فعاليات الأسبوع السعودي الدولي الثالث للحرف اليدوية "بَنّان" الذي تنظمه هيئة التراث في الرياض، بدا كأنه يعيد قراءة تلك الذكريات القديمة، بعد أن أصبحت جزءًا من ملامح تجربة فنية وإنسانية متكاملة. في هذا الركن، الذي يعجّ بزوار يقتربون من الفخار كما لو أنهم يقتربون من حكاية، بدا الخزاف القطري مؤمنًا بأن الحرفة ليست مجرد مهنة أو مهارة، بل لغة كاملة تتشكّل بين اليد والطين والروح.
التحوّل الحقيقي لم يبدأ في الورشة ولا في معرض، بل داخل غرفة علاج نفسي. هناك، طلبت منه المعالِجة أن يستخدم الطين في لحظات التوتر، أن يضغطه بيديه، أن يستمع لصمته، وأن يتركه يُلقي عنه ما عجز الكلام عن التعبير عنه. كانت تلك لحظة اكتشاف صريح: الطين ليس مادة، بل مساحة. ومع تكرار التجربة، بدأ يلاحظ كيف تهدأ أنفاسه كلما لامس الطين، وكيف يسمح له هذا الفعل البسيط بتفريغ طاقته وإعادة ترتيب أفكاره. شيئًا فشيئًا، بدا الأمر أكبر من تمرين نفسي؛ بدا كنافذة تطل على معنى أعمق للحرفة، على إمكانية أن تصبح الفن وسيلة للاتزان الداخلي.
وفي تلك الفترة، كان القحطاني يستكمل مشاركته في برنامج تأسيس رواد الأعمال الاجتماعيين في مركز التنمية المجتمعية، وهو برنامج فتح أمامه عالمًا مختلفًا من الأفكار. هناك اكتشف أن الجمع بين الفن والصحة النفسية والعمل المجتمعي ليس حلمًا طوباويًا، بل مشروع قابل للتحقق. لم يمض وقت طويل حتى فاز بالمركز الأول، وكانت تلك الجائزة بمثابة إشارة واضحة بأن طريقه الجديد ليس عابرًا، وأن خلف تلك التجربة الذاتية يمكن أن ينشأ مشروع يخدم آخرين يبحثون عن الهدوء نفسه. بهذا الوعي، تشكلت النواة الأولى لفكرة Ceramic Cube.
في عام 2019، وُلد الاستوديو من رغبة شخصية صادقة في نقل ما عاشه إلى الآخرين. لم يكن هدفه مجرد تعليم الخزف، بل توفير مساحة آمنة يستطيع الناس فيها أن يهدأوا، أن يتعرفوا على أنفسهم، وأن يكتشفوا أن تشكيل الطين يشكّلهم هم أيضًا بطريقة أو بأخرى. ومع الوقت، ومع ساعات طويلة من التجربة والتطوير، بدأ المشروع يكبر. وفي عام 2022، افتتح القحطاني الاستوديو الحالي في لوسيل، بمساحة مصممة ليكون كل ركن فيها جزءًا من تجربة ممتدة: ورش للمبتدئين والمحترفين، تمارين wheel throwing، hand-building، glazing، firing، برامج تعليمية منتظمة، مساحة اجتماعية مفتوحة للتعبير، متجر متكامل لأدوات الطين والغلايز، وتعاونات مع مدارس ومؤسسات ومهرجانات.
لكن جانبًا آخر ظل حاضرًا دائمًا في هوية Ceramic Cube: هو ليس مركز تدريب فني، ولا استوديو إنتاج قطع فنية فقط؛ إنه مجتمع. مكان يدخل إليه الشخص مُثقلًا ويخرج أخف، يلتقي فيه الناس على اختلافهم حول عجلة خزف واحدة، يكتشفون ملمس الطين ويكتشفون أنفسهم عبره. ولعل هذا الجانب هو ما يجعل تجربة الاستوديو مختلفة، قريبة من الجوهر الإنساني بقدر ما هي قريبة من الفن.
وعندما انتقل حميد إلى الرياض للمشاركة في "بَنّان"، كانت تلك الخطوة امتدادًا طبيعيًا لمشروعه. فالفعالية، التي تجمع حرفيين من مختلف مناطق المملكة ودول أخرى، منحت أعماله بيئة مثالية للظهور، خصوصًا مع التنظيم الدقيق الذي خصص لكل حرفة ركنًا مستقلًا يتيح للزوار قراءة التفاصيل بصمت وتمعّن. وقد جاءت مشاركته بترشيح من وزارة الثقافة القطرية، ما أضفى على حضوره قيمة معنوية إضافية، كونه يمثل بلاده في حدث يجمع خبرات وأسماء لامعة في عالم الحرف اليدوية.
عندما يتحدث القحطاني عن مشاركته، يبدو واضحًا أنه لا يرى في الأمر مجرد عرض أعمال، بل لحظة تقدير لمسار كامل بدأ قبل سنوات طويلة. كان يشعر بفخر حقيقي وهو يعرض قطعًا صُنعت بإحساس عميق، ويستقبل ردود فعل الزوار الذين توقفوا طويلًا عند التفاصيل الدقيقة للأعمال. بعضهم يلمس السطح، وآخرون يسألون عن التشكيل، وآخرون يلتقطون صورًا لملمس يشبه موجة أو لانحناءة تستدعي شكل كثيب رملي. لأن أعماله، كما يوضح، ليست مجرد أشكال زخرفية؛ إنها انعكاس لبيئته القطرية: ملمس البحر، حركة الرمال، طاقة الطبيعة، وحتى الشقوق الدقيقة التي يتركها عمدًا لتكون تعبيرًا عن المشاعر التي يعيشها.
ففي إحدى فلسفاته الفنية، يؤمن حميد بأن القطعة الخزفية ليست كائنًا جامدًا، بل وعاء يحمل إحساسًا. لذلك، يحرص على أن يعكس السطح والملمس ما يشعر به أثناء العمل. إذا كان هادئًا، جاء السطح ناعمًا. وإذا كان مشغول الفكر، تظهر تشققات دقيقة تمثل ذلك الازدحام الداخلي. وحتى الألوان، يختارها كأنها لغة أخرى للمشاعر، مما يجعل كل قطعة تحمل بصمة روحية قبل أن تحمل قيمة جمالية.
في ركنه بـ"بَنّان"، وبين عشرات الحرفيين وآلاف الزوار، بدا حميد القحطاني كمن يمسك خيطًا قديمًا يمتد من طفولته حتى اليوم. لكنه هذه المرة لا يمسك به وحده، بل يقدمه للناس، ليتشاركوا معه الرحلة التي بدأها من غرفة علاج نفسي وانتهت إلى منصة دولية تحتفي بالحرفيين. ما بين الطين الذي كان يلعب به صغيرًا، والطين الذي يشكّله اليوم بوعي، يقف حميد شاهدًا على أن بعض الحرف لا نختارها نحن—هي التي تختارنا، ثم تعيد تشكيلنا قطعة بعد قطعة.
التحوّل الحقيقي لم يبدأ في الورشة ولا في معرض، بل داخل غرفة علاج نفسي. هناك، طلبت منه المعالِجة أن يستخدم الطين في لحظات التوتر، أن يضغطه بيديه، أن يستمع لصمته، وأن يتركه يُلقي عنه ما عجز الكلام عن التعبير عنه. كانت تلك لحظة اكتشاف صريح: الطين ليس مادة، بل مساحة. ومع تكرار التجربة، بدأ يلاحظ كيف تهدأ أنفاسه كلما لامس الطين، وكيف يسمح له هذا الفعل البسيط بتفريغ طاقته وإعادة ترتيب أفكاره. شيئًا فشيئًا، بدا الأمر أكبر من تمرين نفسي؛ بدا كنافذة تطل على معنى أعمق للحرفة، على إمكانية أن تصبح الفن وسيلة للاتزان الداخلي.
وفي تلك الفترة، كان القحطاني يستكمل مشاركته في برنامج تأسيس رواد الأعمال الاجتماعيين في مركز التنمية المجتمعية، وهو برنامج فتح أمامه عالمًا مختلفًا من الأفكار. هناك اكتشف أن الجمع بين الفن والصحة النفسية والعمل المجتمعي ليس حلمًا طوباويًا، بل مشروع قابل للتحقق. لم يمض وقت طويل حتى فاز بالمركز الأول، وكانت تلك الجائزة بمثابة إشارة واضحة بأن طريقه الجديد ليس عابرًا، وأن خلف تلك التجربة الذاتية يمكن أن ينشأ مشروع يخدم آخرين يبحثون عن الهدوء نفسه. بهذا الوعي، تشكلت النواة الأولى لفكرة Ceramic Cube.
في عام 2019، وُلد الاستوديو من رغبة شخصية صادقة في نقل ما عاشه إلى الآخرين. لم يكن هدفه مجرد تعليم الخزف، بل توفير مساحة آمنة يستطيع الناس فيها أن يهدأوا، أن يتعرفوا على أنفسهم، وأن يكتشفوا أن تشكيل الطين يشكّلهم هم أيضًا بطريقة أو بأخرى. ومع الوقت، ومع ساعات طويلة من التجربة والتطوير، بدأ المشروع يكبر. وفي عام 2022، افتتح القحطاني الاستوديو الحالي في لوسيل، بمساحة مصممة ليكون كل ركن فيها جزءًا من تجربة ممتدة: ورش للمبتدئين والمحترفين، تمارين wheel throwing، hand-building، glazing، firing، برامج تعليمية منتظمة، مساحة اجتماعية مفتوحة للتعبير، متجر متكامل لأدوات الطين والغلايز، وتعاونات مع مدارس ومؤسسات ومهرجانات.
لكن جانبًا آخر ظل حاضرًا دائمًا في هوية Ceramic Cube: هو ليس مركز تدريب فني، ولا استوديو إنتاج قطع فنية فقط؛ إنه مجتمع. مكان يدخل إليه الشخص مُثقلًا ويخرج أخف، يلتقي فيه الناس على اختلافهم حول عجلة خزف واحدة، يكتشفون ملمس الطين ويكتشفون أنفسهم عبره. ولعل هذا الجانب هو ما يجعل تجربة الاستوديو مختلفة، قريبة من الجوهر الإنساني بقدر ما هي قريبة من الفن.
وعندما انتقل حميد إلى الرياض للمشاركة في "بَنّان"، كانت تلك الخطوة امتدادًا طبيعيًا لمشروعه. فالفعالية، التي تجمع حرفيين من مختلف مناطق المملكة ودول أخرى، منحت أعماله بيئة مثالية للظهور، خصوصًا مع التنظيم الدقيق الذي خصص لكل حرفة ركنًا مستقلًا يتيح للزوار قراءة التفاصيل بصمت وتمعّن. وقد جاءت مشاركته بترشيح من وزارة الثقافة القطرية، ما أضفى على حضوره قيمة معنوية إضافية، كونه يمثل بلاده في حدث يجمع خبرات وأسماء لامعة في عالم الحرف اليدوية.
عندما يتحدث القحطاني عن مشاركته، يبدو واضحًا أنه لا يرى في الأمر مجرد عرض أعمال، بل لحظة تقدير لمسار كامل بدأ قبل سنوات طويلة. كان يشعر بفخر حقيقي وهو يعرض قطعًا صُنعت بإحساس عميق، ويستقبل ردود فعل الزوار الذين توقفوا طويلًا عند التفاصيل الدقيقة للأعمال. بعضهم يلمس السطح، وآخرون يسألون عن التشكيل، وآخرون يلتقطون صورًا لملمس يشبه موجة أو لانحناءة تستدعي شكل كثيب رملي. لأن أعماله، كما يوضح، ليست مجرد أشكال زخرفية؛ إنها انعكاس لبيئته القطرية: ملمس البحر، حركة الرمال، طاقة الطبيعة، وحتى الشقوق الدقيقة التي يتركها عمدًا لتكون تعبيرًا عن المشاعر التي يعيشها.
ففي إحدى فلسفاته الفنية، يؤمن حميد بأن القطعة الخزفية ليست كائنًا جامدًا، بل وعاء يحمل إحساسًا. لذلك، يحرص على أن يعكس السطح والملمس ما يشعر به أثناء العمل. إذا كان هادئًا، جاء السطح ناعمًا. وإذا كان مشغول الفكر، تظهر تشققات دقيقة تمثل ذلك الازدحام الداخلي. وحتى الألوان، يختارها كأنها لغة أخرى للمشاعر، مما يجعل كل قطعة تحمل بصمة روحية قبل أن تحمل قيمة جمالية.
في ركنه بـ"بَنّان"، وبين عشرات الحرفيين وآلاف الزوار، بدا حميد القحطاني كمن يمسك خيطًا قديمًا يمتد من طفولته حتى اليوم. لكنه هذه المرة لا يمسك به وحده، بل يقدمه للناس، ليتشاركوا معه الرحلة التي بدأها من غرفة علاج نفسي وانتهت إلى منصة دولية تحتفي بالحرفيين. ما بين الطين الذي كان يلعب به صغيرًا، والطين الذي يشكّله اليوم بوعي، يقف حميد شاهدًا على أن بعض الحرف لا نختارها نحن—هي التي تختارنا، ثم تعيد تشكيلنا قطعة بعد قطعة.